يشبه التأمل حركة الغوص العميق إلى قاع الماء للقبض على حبة رمل، أو التحديق في الجزئيات المتناهية الصغر. إنه الانسحاب من عالم خارجي مليء بالتناقضات والضجة والاختلاطات، إلى عالم الذات.. إلى الداخل.. نحو الإنصات العميق لحركة الوجود داخل النفس. التأمل ارتحال مع فكرة، أو صورة، أو مشهد، لمعرفة ماهيته وما يحيط به وما يكونه. وهو التواشج الحميم مع النفس وحديثها وبثها. والتأمل يستند إلى عناصر المعرفة الكلية التي تكوِّن شخصية المتأمل وبناءه الداخلي، وهو أحد أهم تجسدات الأنشطة الخلاقة للدماغ البشري، إذ به تنبني العلاقة الأكثر متانة بالمعرفة والواقع والذات والإبداع. إلا أن التأمل كفعل، تحققه اشتراطات لا تتوافر في محيط الكل. إذ إن من شروطه، قدرة المتأمل على الخلود إلى النفس في عزلة مكانية وزمانية ونفسية. إنه القدرة على أن تجلس وحيداً تماماً، على مدى ساعات أو أيام، دون أن تستشعر الوحشة! أو القدرة على معايشة الداخل، والأنس بالنفس لاكتشاف عوالمها وكينونتها. أن تتحد معها وتتألق في حضورها. إنك بذلك تنقّي شوائبها، وما علق بها من طفيليات الواقع، كي تنمو في عافيتها، رخية، مكتنزة، عميقة، ومتينة البنيان. في التأمل ينصت العقل والنفس والكيان كله إلى حركة الوجود في تبدلاته وتغيراته، وإدراك أسراره العميقة التي لا تُرى في الصخب وضجة اليومي. والتأمل ليس هو العزلة النافرة.. ليس الصد وهجر الحياة ومسراتها والناس ومحبتها، بل هو فعل التلذذ بالحياة ومسراتها وبالناس والمحبة. في التأمل نرى بالبصيرة، ونسمع بالصمت، وندرك بالحدوس، ونهجس بالروح.. ونحب بأعمق خلايانا وأصفى مشاعرنا. في النفس يتم صنع شخوصنا وتحديد معالمها وماهيتها. لكننا في الأغلب لا ندرك ذلك التشكل بسبب نفي النفس إلى زاوية الغياب. إننا لا نعرف شخوصنا، لا نعرف نفوسنا، لا نعرف كينونتنا في عمقها. وما نعتقد أننا نعرفه عن أنفسنا للدلالة على كليتنا الإنسانية في فرديتها، محض التباس. وهذا الالتباس يوقعنا في التناقض معنا، في التضاد، وفي ما نسميه الازدواجية بمفهوم عام. إن تجسداتنا الخارجية لا تشي دائماً بدواخلنا، إذ تطغى ضجة المقولات الجمعية التي تبرمجنا منذ الطفولة وفق ما تريد، وتصيرنا وفق ما لا نريد، على الأغلب في أعمق أرواحنا ورغباتنا وأحلامنا، بل في ما تؤهله لنا الطبيعة كي نكون. إننا محمَّلون بالعقد والكبوتات، بينما نعتقد منذ الصباح إلى المساء أننا أسوياء! في مشاهد الحياة اليومية الكثير من الغرابة بالنسبة إلى إنسان متأمل، فالناس عامة لا تكفّ عن الضجيج وافتعاله واستدعائه! إنهم لا يهنأون لحظة في حضرة الهدوء والصمت. وأكثر ما يخافونه، التوحد مع النفس! (يتبع)