الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ميشيل سير

ميشيل سير
26 يوليو 2017 20:25
هذا الكتاب عبارة عن سلسلة مقابلات مطولة أجراها صحفيان اثنان مع فيلسوف فرنسا الأكبر: ميشيل سير (87) سنة. كنت قد حاولت في السابق قراءة مؤلفات هذا الفيلسوف فوجدتها صعبة، وعرة، تستعصي على فهمي المتواضع في أحيان كثيرة. ولكنه هنا يعبر عن أفكاره ونظرياته العويصة بلغة سلسة، ميسرة، تصل بسهولة الى عامة الجمهور القارئ. من هنا أهمية كتب المقابلات. وهي موضة انتشرت في فرنسا مؤخرا وساهمت في تبسيط أصعب النظريات العلمية والفلسفية. تقريبا لم يبق مفكر واحد مهم أو فيلسوف أو عالم الا وحاوروه وخصصوا له كتاب مقابلات بالكامل. هذا ما فعلوه مع رولان بارت، ودريدا، وتودوروف، وفرنان بروديل، وفوكو، وبول ريكور، ولوك فيري، وأندريه كونت سبونفيل، وآخرين عديدين. هذه الموضة تعجبني وتمتعني.اني لا أشبع من كتب المقابلات لأني أجدها مشوقة، ديناميكية، لا تمل منها على عكس كتب التأليف العادية.فالكتب المؤلفة من سؤال وجواب على طول الخط تجعلك دائما في حالة انتعاش وترقب واثارة. قبل الدخول في صلب الموضوع، أود الإشارة إلى أن ميشيل سير هو من جيل ميشيل فوكو وجيل ديلوز. لقد ولد في  الفترة  نفسها حوالي العام 1930. ولكن في حين أن فوكو غادر هذا العالم منذ أكثر من ثلاثين سنة، فإن ميشيل سير لا يزال حياً يرزق بل ويؤلف وينشر ويلقي المحاضرات العامة في المؤتمرات الكبرى. ويتلقف الجمهور المثقف كلامه بكل شغف وتلهف لأنه يعرف أنه آخر العمالقة الباقين على قيد الحياة. أضيف بأنه يتمتع بخصلة لم تكن موجودة لدى فوكو ناهيك عن دريدا ألا وهي تخصصه بفلسفة العلوم. فهو مطلع على العلوم الفيزيائية والكيميائية والرياضية والطبية والبيولوجية. شيء مخيف! إنه يعرف كل شيء تقريباً، وذلك بفضل عمر مديد وذكاء خارق وعلم مكين. يقال بأن هيغل كان آخر الفلاسفة الذين هضموا كلية المعرفة في عصرهم. ولكن المعرفة في عصر هيغل كانت تعتبر بدائية قياساً إلى المعرفة المتوافرة في عصرنا الراهن. لم يكن من السهل الإحاطة بكلية المعرفة في عصر هيغل ولكن ذلك كان ممكناً. أما في عصرنا فقد أصبح ذلك من رابع المستحيلات. فقد تشعبت العلوم وتزايدت المعارف الإنسانية بشكل هائل لا يكاد يصدق. ومع ذلك فإذا كان هناك شخص واحد على وجه الأرض يعرف كل شيء في عصرنا الراهن فهو ميشيل سير! إنه عالم أنسيكلوبيدي، موسوعي، عظيم. من هنا الحاجة على ضرورة الجمع بين الثقافة العلمية/&rlm&rlm والثقافة الأدبية. خطيئة الفصل يرى سير أن الفصل بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية أساء جداً للأجيال الصاعدة في المدارس والجامعات. وفي نظره لا يمكن أن تكون مثقفا حقيقيا إذا لم تجمع في شخصك أو تكوينك المعرفي بين العلوم الدقيقة/&rlm&rlm والعلوم الإنسانية. بالطبع يستحيل عليك أن تتعمق في علم الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا من جهة، وعلم التاريخ والانثربولوجيا والتحليل النفسي وبقية العلوم الإنسانية من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى الفلسفة. ولكن بإمكانك على الأقل أن تطلع على آخر نظريات العلم الحديث التي تشرح لنا كيفية تشكل الأرض والكون والمجرات. لا أحد يطالبك بمعرفة التفاصيل الدقيقة والعويصة التي لا يعرفها ولا يفهمها إلا الاختصاصيون. ولكن بإمكانك الإلمام بالخطوط العريضة. في كل الأحوال ينبغي عدم الفصل بعد اليوم بشكل كلي بين البكالوريا العلمية/&rlm&rlm والبكالوريا الأدبية. فأي مثقف يحترم نفسه ينبغي أن يكون مطلعا على النظرية العلمية لتفسير الكون ونشوء الحياة على وجه الأرض وظهور الإنسان. للأسف لن أستطيع استعراض كل محاور هذا الكتاب القيم فهذا يتطلب مقالات عديدة. ولذا فسأكتفي بالتركيز على بعض النقاط مهملا نقطة أساسية ألا وهي: دوره في التنظير للثورة المعلوماتية التي غيرت وجه العالم؛ فهذا يتطلب مقالا منفردا على حدة. والآن دعونا نطرح هذا السؤال: ما هي الفلسفة في نظر ميشيل سير؟ إنها تطل على كل العلوم من فوق، إنها علم العلوم. فالفيلسوف في نظره ليس له اختصاص محدد. ولا ينحصر في أي اختصاص ضيق كبقية العلماء والباحثين. لماذا؟ لأنه يعرف كل الاختصاصات أو يُفترض ذلك. انه شخص يعبر كل فضاءات المعرفة والتجربة، ويطلع على كل العلوم. انه كوني المعرفة. هكذا كان أفلاطون وأرسطو ولايبنتز وكانط وبقية الكبار. وهكذا ينبغي أن يكون الفيلسوف في عصرنا الراهن. فلكي تصبح فيلسوفا حقيقيا ينبغي أن تقوم بجولة كاملة حول العالم وحول نفسك أيضا. ينبغي أن توسع آفاقك الى أقصى حد ممكن وتطلع على كل العلوم الإنسانية/&rlm&rlm والفيزيائية. خطيئة الحداثة هناك فكرة أخرى يفككها ميشيل سير. فنحن كنا نعتقد سابقاً أن التقدم العلمي شيء مفيد بالضرورة للبشرية. لم يكن أحد يشك في فكرة التقدم أبدا حتى عام 1945 عندما فجروا قنبلة ذرية فوق هيروشيما. وقد راح ضحيتها فورا سبعون ألف شخص. ولكنها أصابت مئات الألوف الذين ماتوا لاحقا بالتدريج. وعندئذ تجلت لنا الحقيقة التالية بشكل ناصع لا لبس فيه ولا غموض: وهي أن الثقة العمياء بالعلم قد انهارت. لقد استمرت هذه الثقة طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بل وحتى منتصف العشرين. ما كان يخطر على بال علماء تلك الفترة أن يشكوا في العلم لحظة واحدة. كانوا يعتقدون أن البشرية سائرة على طريق التقدم العلمي إلى ما لانهاية. ولكن ضربة هيروشيما وناغازاكي كشفت لنا عن الوجه الآخر للعلم: الوجه المظلم والمرعب حقا. وكانت صدمة كبيرة لم نقم منها حتى الآن. عندئذ أدركنا أن العلم سلاح ذو حدين: فقد يُستخدم في طريق الخير وقد يستخدم في طريق الشر. عندئذ فهمنا أن العلم يمكن أن يدمر وليس فقط أن يعمر. لا ريب في أنه قادر على صنع المعجزات وقد صنعها وشكل كل هذه الحضارة الحديثة التي ما كانت تخطر على بال الأجيال السابقة. أنظر التقدم الطبي الهائل الذي زاد من عمر البشرية وحسن صحتها إلى أقصى الحدود وبخاصة في الدول المتقدمة. ولكنه قادر أيضا على تدمير البشرية بأسرها في لحظة هيجان مجنون. وبالتالي فإذا لم يرافق التقدم العلمي تقدم أخلاقي فانه قد يؤدي إلى دمار البشرية كلها. وهيروشيما كانت تمثل أفق الاستئصال الممكن للبشرية. وبالتالي فهناك علاقة بين العلم والأخلاق، أو بين التقدم العلمي والواعز الأخلاقي. أو قل يجب أن تكون هناك علاقة. ولذلك يقول لنا ميشيل سير: لقد اقترحت على السلطات المختصة قبل عشرين عاما أن يُقسم كل العلماء وكل الأطباء اليمين على التقيد بالضمير الأخلاقي أثناء ممارستهم لعلم الطب أو لعلم الفيزياء والكيمياء والذرة والفلك وصناعة الأسلحة المتقدمة الخ.. بمعنى آخر ينبغي أن نلجم العلم بالأخلاق، وإلا فان النتيجة ستكون كارثة. فالطبيب قد يشفيك ولكنه قد يقتلك أيضا إذا لم يكن لديه واعز أخلاقي. هنا يكمن أكبر نقد للحداثة الغربية التي عندما نسيت هذا المبدأ الأساسي ارتكبت الانحرافات والجرائم الفظيعة. فقد حل لديها مبدأ الفعالية والمردودية الاقتصادية محل مبدأ النزعة الإنسانية والمسؤولية الأخلاقية. وهنا تكمن أكبر علة ونقيصة في حضارة الغرب حالياً. إنها حضارة فقدت صوابها أو بوصلتها. نحن نعلم أن الطبيب قبل التخرج يحلف على قسم أبقراط الذي يلزمه بمعالجة المريض وشفائه بقدر المستطاع وعدم إعطائه أي علاج يضر بصحته حتى ولو كان من ألد أعدائه. ولكن هذا لا يمنعه من خيانته أو الحنث بالقسم إذا لم يكن لديه ضمير أخلاقي أو إذا ما أوعزوا إليه سراً بتصفيتك. فما العمل؟ ما الحل؟ هنا يكمن مأزق العقل الغربي المتقدم ومأزق الحضارة ككل. ولذلك قال هيدغر عبارته الشهيرة قبيل موته: «وحده إله جديد يمكن أن ينقذنا». وهذه العبارة صادرة عن أكبر فيلسوف ملحد في العصور الحديثة! تطرف الأصولية الإلحاديّة هكذا نلاحظ أن الأصوليات التكفيرية ليست هي وحدها التي تهدد سلام البشرية على الرغم من فظائعها. وإنما هناك أصولية أخرى أشد فتكا وأدهى. ولكنها لا تقتلك بشكل همجي وحشي على طريقة داعش، وانما بطريقة ناعمة وقفازات من حرير. إنها أصولية الحادية، مادية، تكنولوجية، استئصالية، صقيعية، خالية من أي عاطفة بشرية أو نزعة إنسانية. ولا هدف لها إلا الربح وربح الربح والتنافس على الأسواق والصفقات. إنها مهووسة بالنجاح المادي والحسابات والأرقام الفلكية في البنوك والفعالية الباردة التي لا قلب لها ولا ضمير ولا إحساس.. فالسؤال المطروح بالنسبة لها ليس: هل هذا العمل أخلاقي أم لا؟ هل هو إنساني أم لا؟ وإنما هو: هل هو فعال أم لا؟ هل له مردود مادي بأقصى سرعة ممكنة أم لا؟ كل ما عدا ذلك تفاصيل بالنسبة للعقلية الغربية المعاصرة. قصدنا عقلية أرباب العمل وقادة الشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للقارات. هذه هي عقلية قادة العولمة الرأسمالية الذين يهيمنون على العالم اليوم. تاريخ البشرية ثم يتحدث شيخ فلاسفة فرنسا عن ثلاثية أوغست كومت الشهيرة. وهي أن تاريخ البشرية مقسوم إلى ثلاث مراحل كبرى: المرحلة اللاهوتية، فالمرحلة الميتافيزيقية، فالمرحلة الوضعية. في المرحلة الأولى هيمن الدين طيلة العصور الوسطى المسيحية، وفي المرحلة الثانية هيمنت الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة، وفي المرحلة الثالثة هيمن العلم الفيزيائي &ndash التكنولوجي - الرياضي &ndash الفلكي، الخ. ولكن الدين لن ينتهي في الواقع. وإنما سوف يظهر تفسير تنويري له يتناسب مع عصر الحداثة وتطور العلم. وهذا ما تحقق في أوروبا. بقي أن يتحقق في العالم العربي أيضا. وهذه هي أكبر مهمة مطروحة على المثقفين العرب طيلة العشرين أو الثلاثين سنة القادمة. وبالتالي فالتنوير العربي الإسلامي لا يزال أمامنا.انه آت لا ريب فيه.وهو الطريقة الوحيدة لإنقاذنا من تهمة الإرهاب التي لصقت بنا بسبب أعمال المتطرفين التكفيريين وتفجيراتهم العمياء التي أرعبت العالم ووضعتنا في قفص الاتهام غصبا عنا.وقد كنا في غنى عن هذه التهمة التي شوهتنا وأساءت لمستقبل أجيالنا. ملحمة الكون الكبرى بقيت نقطة أخيرة في هذا الكتاب المليء بالأفكار والنقاط اللامعة الضرورية لفهم عصرنا وكل تاريخ البشرية. انها تخص ملحمة الكون الكبرى التي ابتدأت مع البيغ بانغ: أي ذلك الانفجار الأولي الهائل الذي حصل قبل 15 مليار سنة والذي أدى إلى ظهور الكون وتشكل المجرات من اللاشيء تقريبا أو من نقطة أصغر من رأس الدبوس بما لا يقاس. من اللاشيء خرج كل شيء. هذه الملحمة الكبرى ينبغي تدريسها لكل طلبة الجامعات بل وحتى المدارس الثانوية وربما الإعدادية والابتدائية. لشرح كل ذلك يقول الفيلسوف الكبير: كم عمري الآن، أنا ميشيل سير؟ 83 سنة لحظة إجراء الحوارات.ولكن بصفتي منتميا إلى مرحلة ظهور الإنسان العاقل فان عمري في الحقيقة مائة ألف سنة. وضمن مقياس أني أنتمي إلى إنسان جزيرة جاوة فان عمري يتراوح بين 4 و5 مليون سنة.وضمن مقياس أني مشكل من جزيئات أو ذرات عضوية فان عمري يصل إلى 4 مليارات سنة.وبما أني مشكل من ذرات هيدروجينية وهليومية فان عمري يصل الى 15 مليار سنة.وبالتالي فأنا ألخص في شخصي المتواضع تاريخ الكون كله.ليس أنا فقط وإنما كل إنسان.انتهى كلام ميشيل سير.  ألا يذكركم ذلك بهذا البيت العربي الشهير: وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر؟! الإنسان والتاريخ يقول الفيلسوف الكبير: كم عمري الآن، أنا ميشيل سير؟ 83 سنة لحظة إجراء الحوارات. ولكن بصفتي منتمياً إلى مرحلة ظهور الإنسان العاقل، فإن عمري في الحقيقة مائة ألف سنة. وضمن مقياس أني أنتمي إلى إنسان جزيرة جاوة فإن عمري يتراوح بين 4 و5 ملايين سنة. وضمن مقياس أني مشكل من جزيئات أو ذرات عضوية، فإن عمري يصل إلى 4 مليارات سنة. وبما أني مشكل من ذرات هيدروجينية وهليومية، فإن عمري يصل إلى 15 مليار سنة. وبالتالي فأنا ألخص في شخصي المتواضع تاريخ الكون كله. ليس أنا فقط وإنما كل إنسان. القتل بقفازات من حرير الأصوليات التكفيرية ليست هي وحدها التي تهدد سلام البشرية على الرغم من فظائعها. وإنما هناك أصولية أخرى أشد فتكاً وأدهى. ولكنها لا تقتلك بشكل همجي وحشي على طريقة داعش، وإنما بطريقة ناعمة وقفازات من حرير. إنها أصولية الحادية، مادية، تكنولوجية، استئصالية، صقيعية، خالية من أي عاطفة بشرية أو نزعة إنسانية. ولا هدف لها إلا الربح وربح الربح والتنافس على الأسواق والصفقات. إنها مهووسة بالنجاح المادي والحسابات والأرقام الفلكية في البنوك والفعالية الباردة التي لا قلب لها ولا ضمير ولا إحساس.. فالسؤال المطروح بالنسبة لها ليس: هل هذا العمل أخلاقي أم لا؟ هل هو إنساني أم لا؟ وإنما هو: هل هو فعال أم لا؟ هل له مردود مادي بأقصى سرعة ممكنة أم لا؟ كل ما عدا ذلك تفاصيل بالنسبة للعقلية الغربية المعاصرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©