غاية التعب والملل أن تتطلب منك مهنتك القيام بجرد مخازن «إيكيا» مثلاً، فتصبح في تلك المخازن التي تشبه ظهور السفن المهجورة، تتلفت يمنة ويسرة، وتمد عنقك للرفوف العالية، فلا تعرف من أين تبدأ، ولا متى ستنتهي تلك الرموز المشفرة التي تشبه مشطاً أسود! بعض الشعوب ينقل خشونة لغته إلى اللغات الناعمة إن تعلمها، فيتعامل الناس معها بطريقة النجارة والحدادة، ويتخلون عن الكلمات الرطبة فيها، والتي تجعل من جمل الأمر سهلة ومتقبلة من الطرف الآخر، فكلمة السماء «سيِلو Cielo» التي تجدها في كل جملة الأمر الإسبانية، تصبح عليهم مثل السموات الطباق، وهي تعني، بلا فضل أو أمر أو منّية، اللغة هي نحن، كيف نفكر، نتصرف، ونرتقي بالحالات! من أهم ثقافات الشعوب، ثقافة الأكل، ورغم أنها تأخذ الحضارات من بعضها بعضاً، فإن ثقافة الأكل تختلف بالإضافات والتحسينات والذوق الخاص والتحضر، بحيث يمكنك أن تأكل أكلة عند شعب من الشعوب، ولا يمكن أن تطيق الأكلة نفسها من شعب آخر، ياه.. كم تعب هذا الإنسان منذ كان ساكناً الغاب، ينهش لحماً نيئاً حتى وصل لقطعة اللحم الغالية والمطهوة على نار من خشب السنديان على مهل، ومذاب عليها نوع منتقى من خلطة البهارات والمتبلات، وبجانبها عود واحد من الريحان للزينة، أكلة واحدة الْيَوْمَ يمكنها أن تختصر مسيرة الإنسان منذ كان حافياً حتى جلس على مقعد من ريش من رقبة النعام! ثمة مهن تاريخية أو هي أبدية، ولا تتطلب إلا قليلاً من المسكنة والمذلة، مثل مد اليد أو الشحاذة أو الطلابة أو الطِرارة أو السعاية، مهن تنتقل مع الإنسان، كل شيء يتغير، إلا هي، فمنظر الشحاذ في العصر العباسي، بالتأكيد لا يختلف عن شحاذ عصر النهضة، عن شحاذ غجري يجوب شارع الشانزليزيه الْيَوْمَ، فقط ما يميزه أنه يخبئ جهاز «آيفون» في جيبه! هناك عادات تحكمنا، وتحكم يومنا، ولا نقدر على التخلص منها، لو حاولنا ما حاولنا، مثل أن يفرض على صباحك منظر شخص طويل بشكل ممل، ووجه غائر، ولَم يعرف الضحك منذ أن كبر، واكتشف أن هناك مسؤوليات كثيرة في الحياة، وعيناه لا توحيان بثقة في شيء، وَمِمَّا زاد من شعوره بالكآبة شبه اليومية أن الشعر بدأ في الانحسار عن جبهته بشكل تدريجي، ولَم يبق له منه إلا ما يشبه قذلة «نابليون» البائسة، قد يقف ذاك الرجل الذي فرض نفسه على صباحك صافناً ينظر إليك بتلك البلاهة التي تحض ريقه على السيلان بفتور من جانب شق فمه، وهو يحوث أذنه، تقول في نفسك: «يا ساتر»! ثم تهرب بصباحك منه، فتجد ظله يتبع ساعات يومك!

amood8@alIttihad.ae