في منتصف الثمانينيات، كنت راغباً في زيارة الريف الماليزي، واعداً نفسي برؤية تلك المناطق البريئة والأولية في كل شيء، فنظمونا كفريق صغير تستوعبنا سيارة ذات دفع رباعي، وشملت الرحلة غداء منزلياً تشاهد فيه الريفيات وهن يطبخن في قدور مركبة على الحطب، وربما الواحدة وهي تطبخ، تقوم بإرضاع ابنها الصغير وتتشاجر مع جارتها، ورغم بدء التنغيص من أولها حيث علمت أن الرحلة ستبدأ في تمام الساعة السادسة صباحاً، وأنا ساعتي تتوقف بعد الفجر، فبداية الصباح له عشق آخر، ومتعة أخرى، وأظن أجملها دفء الفراش ومتعة الرقاد بدون تقلب ولا أحلام، لكن لا بأس من كسر إيقاع اليوم لمرة قد لا تتكرر، ولمكان استثنائي! كنت أول الواصلين، لأنني ببساطة لم أنم، وهذا أفضل من نعاس تظل تحلم فيه بمنبه الساعة وتأنيب الضمير إن تأخرت وأخرت العالم معك، جاءت بعدي بعشر دقائق عجوز أسترالية، قائلة إن صديقتيها أنهتا وجبة الإفطار، وستتناولان الدواء المقرر، وقد تتأخران ربع ساعة، عرفت أن الفريق مكون من أربع عجائز وشاب في مقتبل العمر، بعدما رأيت الرابعة تتبع الظل، وتمشي وتترحطم لوحدها، فحسبت في ذهني ما يترتب على هذه التشكيلة: حمل الحقائب نتيجة بعض الشهامة، وما يتطلبه الذوق من رجل نبيل تجاه نساء رغم انقطاع الطمث عنهن، عدم التذمر من الإيقاع البطيء، ومحاولة مسايرتهن وتتبع خطاهن، وأن عليّ المشي سبع خطوات وبعدها أستريح، وأن أتحمل متطلباتهن ومزاجهن وثرثرتهن وأسئلتهن التي لا تنقطع، وأن أكون يقظاً لئلا تنزلق رجل واحدة، ومتنبهاً لئلا تصاب واحدة بالدوار! بقين لمدة ساعة، هذه ذاهبة والأخرى آيبة، هذه تكح والأخرى تطمئن عليها، حتى انطلقنا وانطلقن في أسئلتهن، متمنياً أن يغطنّ في نوم متقطع وأنعم أنا بنوم قليل، لكنهن ظللن يشغلنّ صفوف تلك الأسنان التركيبة في الأسئلة وفي قرض البسكويت وأكل التفاح اللائي جلبنه من وجبة إفطار الفندق، وأنا أضجر من أن يأكل أحد جنبي التفاح، فما بالكم وأن النوم كان بالأمس منعدماً والآن كابساً، والساعة البيولوجية مترنحة، والمعدة التي لا تشتهي أكل الصبح متلبكة، ولما بدأت يقظتي المعاندة، غطين هن في نومهن، بقيت طوال الطريق أتفكر في أحوال العجائز اللائي هنّ متشابهات في كل مكان!قضينا يوماً غير عادي، كنت طوال الرحلة واضعاً يدي على قلبي خوفاً على عجائزي، حيث بدوت كمن صحب جداته وتبرع أن يرّفه عنهن ويسليهنّ في خريف عمرهنّ.. كنت مستمتعاً للغاية.. وكنّ يضحكنّ من قلوبهنّ ببراءة طفل!