لو نحصي عدد الكذابين والأفاقين والخرّاصين والمتملقين الذين مروا علينا، في وقت نعيمنا، وسعة حياتنا، لا في وقت فقرنا ومحنتنا، وشربوا من غدير مائنا، وقبل أن يرحلوا نجسوا ماء الغدير، كثيرون كانوا، وكثيرون مروا، وكثيرون رحب بهم، وأفسحت لهم المجالس، وكانوا يقولون شيئاً في الصديق، ثم تقولوا علينا، كنّا نعدهم من أهل الدار، فعابوا الدار، وذموا أهلها، كثيرون، بعضهم نسيناه لولا أدرانه على الطريق، وبعضهم تغاضينا عنه، لولا أنه ما زال ينعق على خراب نفسه، ويتكسب على خرائب الآخرين، كثيرون جاءوا هنا، وعديناهم من الأشراف لمعسول كلامهم، وعديناهم من المخلصين لمرأى أفعالهم، لكنهم ما إن شطحوا نطحوا، بعضهم كانت لهم أبواب بيوتنا كعادتها مشرعة للغريب والبعيد، لكنه ما إن دخل عتبة الباب حتى هتك أسرار البيوت، وبات يقول فينا الشينة، ويتغاضى عن الزينة، بعضهم جاء إلى هنا، وكان يمكن أن تعد أضلاعه من خلال ثيابه المهلهلة، ولَم يخرج إلا منفوخاً بالكذب والورم والشحم، ولَم نطلب منه كلمة شكراً، فقط كان يكفي لو ظل لسانه عفيفاً، ولَم يفحش، أي معروف نريد من شخص حضناه سنين طويلة، وأكل من زادنا، وربى أولاده هنا، وتعلموا هنا، ولَم نطلب منه مقابلاً غير ذكر الخير، وعدم نكران المعروف، وما إن تركنا حتى رمح كل خير، ونسى كل معروف، وصار يكيل صاع الخير، صاعين من الشر. وحين نريد أن نعرف السبب، هل العيب فينا، لأننا نمد يدنا، ونقدّم خيرنا، ونفتح صدورنا، ونعامل الناس بأخلاقياتنا وطبيعتنا، وفطرتنا الإنسانية الباقية؟ أم العيب في النفوس المريضة التي وإن عالجتها بالإحسان إليها، أنكرت وجحدت وعضت اليد، ولا تكتفي، بل تفتري عليك، وتعيبك، وتعيب أرضك التي حمتهم وأمنتهم وتقاسمت معهم لقمتها، وأغنتهم بعد جدبهم وجربهم؟ ليس مطلوباً منا أن نغير طبيعتنا الخيرة، لأن الآخر قابل الإحسان بإساءة، ونجس ماء الغدير بعد ما شرب منه، وإلا نكون قد أعطينا الشر منفذاً لهذه الحياة، ووسعنا رقعة الأشرار على هذه الأرض، وخذلنا راية الحق والخير. ليس من عادتي أن أعد الأسماء، فهم «عابرون في كلام عابر»، وهم طارئون على الوقت، فلا نجعلهم أكبر همنا، ولا مبعث غضبنا، فكلاب الحوءب العاوية كثر، لكن قافلة الخير تمضي، ففي الحياة أخيار مثلنا، وشرفاء مثل غيرنا، والإمارات أرض الخير سائرة نحو ركب التحضر والرقي، ولن تخلف وراءها إلا كثيراً من النابحين والحاقدين والكذابين والذين دللناهم مرة على غدير الماء عندنا، فشربوا منه، ولَم يكتفوا...