من مبتليات الإعلام التقليدي في أواخر عهده، ومن النقاط التي أصابته في مقتل، وعجّلت بأفوله، الضحالة التي يبدو عليها القائمون، والاستخفاف بالظهور على الناس، وكأن الواحد ذاهب لزيارة جاره، وهو أمر لم يكن عند الرعيل الأول من الصحفيين والإعلاميين، فقد كان كل واحد يبز زميله، ويتنافس معه من أجل الأجود والأمثل، وعلو المكانة، كان الاحترام يشعّ من حول أولئك الرجالات، ومن حول النساء المحاورات، لكن اليوم تجد معظم العاملين في الوسائل الإعلامية يسلقون الأمر سلق البيض، ولا يكترثون بما يقدمون، ولا كيف يظهرون عليه أمام المشاهدين والقراء، كل ذلك مرده لانعدام الثقافة كمرتكز، وعدم التحضير الجيد، والفرح بالظهور التلفزيوني قبل تمكين النفس وتثقيفها، فلما جاء الإعلام المرتبط بوسائط التواصل الاجتماعي والأجهزة الإلكترونية الذكية لقف كل تلك السلبيات، ومارسها الجميع بعدم خبرة، ولا محاسبة، غاب اليوم ذلك الصحفي الذي يجعل الضيف يحضر للمقابلة قبله، ويجعل من القادة السياسيين أكثر حذراً، وانتباهاً، لكي لا ينزلق في منزلق يريده له الصحفي، كان الإعلاميون فيما مضى سلطة، وأثراً وتأثيراً، اليوم وحين امتهن الإعلام كل من لا مهنة له، ظهر الصحفي الخانع، الراكض خلف ظرف يدس في جيبه قبل أن يسطر حرفاً، غابت الموضوعية بانتهاك شرف المهنة، وتحول العمل الإعلامي من الإبداع إلى الابتذال. اليوم الكثير من المبدعين حين يطلب منهم مقابلة أو مداخلة، يحسب ألف حساب للمذيع الذي سيكون معه، والذي يتزين أكثر مما يعد للحلقة، ويمكن أن ينسف الحلقة، ويحولها لأمر تافهة، بحيث يستصغر المبدع نفسه أمام الناس وأمام أسئلة المذيع المتثائب، والذي يحاول أن يتخطى الحواجز اللغوية بأمان، وكم سبب هؤلاء الإعلاميون الجدد من حرج، وأمور ترقى للفضيحة مع ضيوف لهم قدرهم العلمي، ومكانتهم الاجتماعية، والذين يشكون في همزة الابتداء إنْ كانت في محلها أو لها تأثير سلبي قد يفهمه القارئ والمشاهد بطريقة فيها التباس، وتحمل صيغة الاحتمالين. ومرة.. وفِي بدايات ظهوري الإعلامي، في منتصف التسعينيات، دعيت لمقابلة مع التلفزيون المصري، وفِي برنامج يهتم بالثقافة والأدب والفن، وكان يفترض بالمذيعة أن تكون على الأقل شبه متخصصة، وإلا لا تتصدى لبرنامج ثقيل وعميق كهذا، فقالت ربما في نفسها: هذا شاب غرّ، وآتٍ من الخليج، وهذه المقابلة أشبه بالمجاملة له، وإن شاء الله ما يسوّد وجهي أمام المشاهدين، ويقول له كلمتين بالعربي نفهمهما، وليس بالخليجي، ظلت تلك المذيعة تتزين وتتبرج، وتلم تلك الباروكة، مرة ذات اليمين، ومرة ذات الشمال، بحيث يمكن أن تقولوا قضت أمام مرآة المساحيق التجميلية أكثر مما قرأت صفحتي المعد البائس، وانتظرنا طلتها، وهلّ هلالها، ولما دخلت الاستوديو، تذكرت حال الفنانين المتعالين، والذين يعتقدون أن التكبر والزهو من صفات الفنان الناجح، وأنه يجب أن يضع حدوداً شائكة بينه وبين جمهوره، جلست بعد أن حيّتني بتحية مُرّة، ولزمت الميكرفون منتظرة إشارة المخرج، فقلت في نفسي: تبدو هذه المذيعة من صاحبات ما هو لونك المفضل؟ وهل جربت الأكل المصري؟ وما هو جديد؟ ممكن تقول ليّ بتحب أم كلثوم؟ وغيرها من الأسئلة البلاستيكية... ونكمل غداً