حين أتذكر أول مرة رميت بنفسي باتجاه السفر البعيد إلى الشمال البارد، والغرب الغريب، كنت وحيداً، غير الوعد بلقاء أصدقاء في صيف لندن، والذين يسرقون عطلة نهاية الأسبوع، بعيداً عن عيون العائلات الإنجليزية الصارمة التي يسكنون عندها، لتضمهم مغامرة شبه بريئة في أماكن لندن الكثيرة المدهشة، والمكتشفة من قبل شباب فرحوا بتبرعم عودهم هناك فجأة، كان عمري يومها ست عشرة سنة، لا تسعفني محفظة مكتظة، ولا بطاقات ائتمان، كانت فقط أيامها ما يعرف بـ«ترافلرز شيك»، ولا لغة غير اللغة الإنجليزية التي كان يعلمنا إياها المدرس الفلسطيني الأستاذ محمود، وهي لغة لا تستطيع أن تمشيك، وتمشي أمورك في محطة واحدة تحت «الأندركراوند» بتفرعاته المعقدة.
كانت التجربة الأولى لزيارة أوروبا دفعني أبي إليها دفعاً، ولاقت حباً في نفسي، رغم تحجر دموع الأم، ودعواتها بأن أرد سالماً، كان يومها السفر سفراً، فلا هواتف إلا العمومية في الشارع أو في مراكز البريد والبرق اللاسلكي، أما الفنادق فكانت المكالمة منها بقدر قضاء ليلة فيها مع الفطور، طبعاً هي من نوعية فنادق «سرير مع فطور» أو «بد أند بريكفاست»، الآن لا أذكر من الرحلة أي طائرة استقللت؟ وكيف وصلت مطار «هيثرو»؟ وكيف عبرت الجمارك الإنجليزية وأسئلتهم الكثيرة؟ وهل كان هناك طلب للفيزا؟ وكيف وصلت إلى عنوان العائلة التي سأستقر عندها؟ ما أتذكره أنني سحبت حقيبة كبيرة، وطلعت بها طابقين على درج خشبي تسمع طقعه الخشبي، وهو يئن تحت ثقل الصبي ذي الستة وخمسين كيلوجراماً.
أتذكر الترحيب الفاتر من «ديفيد» زوج السيدة «ماكلين»، وعدم المبالاة كثيراً من الزوجة في بدايتها، لم يبق إلا ابنهما «جيسون»، الذي كان لطيفاً، رغم أنه لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، أما العداء الحقيقي فكان من زوجي القطط اللتين بادلتهما العداء نفسه، رغم الألفة التي كانت فيما بعد، وتمسحهما بي، إلا أنني كنت مجاملاً إن كان هناك حضور للعائلة كلها، إما إذا كنت وحدي، فلا أطيق أن يجلسا حتى بقربي، لم أحب أكل تلك السيدة التي تعمله على عجل، ومن دون أدنى مهارة، فقط وجبة الصباح كانت لذيذة لأنني كنت أصحو على لحم بطني، فبفضلهم عرفت «الكورن فليكس» بالحليب البارد، والذي مازلت أحبه حتى اليوم، وكنت أتناوله في الغداء أو أي وقت بعدها من كثر المحبة، وفرحة الاكتشاف، وكنت أشتهي البيض باللحم، لكن بعد فترة من التلذذ به، وقبل أن أودعهم بقليل، عرفت في المدرسة أن هناك أكثر من أربع كلمات للحم الخنزير غير كلمة الأستاذ محمود الذي حفظّنا إياها «بورك» - بوركت يدها - وأن عجة البيض كان معها دائماً «بيكون» و«البيكون» ليس لحم تويس صغير رضيع كما تهيأ لي.. وغداً نكمل