الموظف الكبير، مدير، لديه من الصلاحيات ما يجعله يدير ظهره لكل المشاعر الإنسانية التي يفترض أن يتمتع بها أي إنسان، وهو أيضاً يتربع على كرسي يختلف عن بقية الموظفين لأنهم صغار، ولا بد أن يتمتع الكبير بما لا يجوز لغيره من الصغار أن يحظوا به، وهذا أمر طبيعي، فهذا المدير تعب وشقي، وتورمت قدماه وهو يشق طريقه إلى المجد، وبمختلف الطرق والوسائل حتى يصل إلى هذا المكان المرتفع، ولكي يثبت أنه كبير، عليه أن يتحلى بسمات الكبار، وأول ما يقوم به هو إغلاق المكتب الفسيح، وإلزام السكرتيرة بعدم تمرير أي شاردة أو واردة إلى مكتبة دون طلب الإذن، ومن بين المتطلبات الأساسية والتي يرى المدير أنها جوهرية، عدم السماح لأي كان بدخول المكتب، حتى ولو كان أباه، إلا بعد طلب الإذن، الأمر الذي يجعل لهذا المدير الهيبة، والفخامة، والأبهة، والعظمة، حتى يشعر بلذة المنصب الذي أصبح الجزء المهم من كيانه، ولا وجود له من دون هذا الجبل الاصطناعي التي اعتلى هامته بقدرة قادر، واستطاع أن يقف بين أهله، وأقرانه جذلاً، فخوراً، رياناً بمشاعر الزهو، والاعتزاز، لما وصل إليه (من كده، وجهده، وعرقه)، إذاً يتطلب منه الآن أن يكون (دبلوماسياً) في تعامله مع الآخرين، من ذوي الحاجة الذين يرتادون مكتبه، لإنهاء معاملة أو إنجاز مهمة، ومن سمات الشخصية الدبلوماسية المراوغة الكيل بمكيالين، وإبراز الابتسامة الصفراء، والتحدث بلغة مهجنة ما بين اللغتين العربية والإنجليزية الركيكتين، لتأكيد فهمه ولياقته وقدرته التي تفوق غيره، والتي وضعته في هذا المكان، ولكي يقبض على زمام الأمور، ويتشبث بمنصبه، عليه أن يتمكن من رص التقارير غير الواقعية، حول سير العمل في دائرته أو مؤسسته، حتى يستطيع إثبات أنه المدير العبقري الذي يملأ مكانه، ولا مكان لغيره في هذا المكان، لأنه جلب السعادة لموظفيه، وأكسبهم الثقة في أنفسهم، مما جعلهم ينجزون متطلبات المهنة بكل نجاح وفلاح وصلاح.
مثل هذا المدير لم يكن لينشأ لولا إصابة البعض بعقدة اللهاث، لتحقيق المجد الوظيفي بمختلف الطرائق، حتى ولو كانت القدرات أقل من الموضوعات، لأن العقدة الأولية مرهقة، وتصيب المبتلى بها بسوداوية شديدة، لو لم يحقق ما يريد وقد تؤدي إلى عواقب وخيمة، أهمها كرهه لكل ما هو جميل في هذه الحياة، وقد يتطور الأمر إلى فراق، وشقاق مع أقرب الناس له، أبنائه وزوجته. هذا النوع من الناس أناني إلى حد الفجاجة، والله المستعان.