على غرار معاهد الاستشراق، التي تعنى بالثقافة الشرقية، من لغة وعادات وتقاليد وتاريخ، وكل ما يتعلق بالشأن الإنساني في هذه البلدان الواقعة عند خاصرة العالم، والتي لها الأثر الكبير في تطور الحضارة في العالم الغربي، نحن الآن وفي المرحلة المفصلية من تاريخنا المعاصر، نحتاج إلى معاهد تنظر إلى الثقافة الغربية بعين المجهر، الذي ينقل لك الصورة صافية ومن غير رتوش أو خدوش أو نقوش، راقصة على سيرك الإيماءة البلهاء، نحن بحاجة إلى معرفة هذا العالم من الداخل، بدلاً من لحس بقايا الجبنة الفرنسية، أو لعق ما تبقى من فن الباروك، نحن بحاجة إلى المثول أمام الواقع الغربي، كند عارف، لا كمريد فاغر فاهه أمام لحظة الاندهاش.
معاهد الاستغراب، ستكون بمثابة مجس الاكتشاف لمجاهيل ما نزال لا نفطن إلى شفرتها التاريخية، ولا نعرف السيرة الذاتية لمضمون الحراك الداخلي لثقافة غربية، باتت تحرك الوجدان العالمي نحو إشراقات مذهلة، ولكن لأن الشرق غط لفترة ليست بالوجيزة، فإنه لما صحا بات مشدوهاً، وأثر هذه الدهشة غيّب الكثير من جماليات الثقافة الغربية، وأضحى يتلقف قشور الموز، ويحسبها لُب الحياة، ونحن في مطالبتنا إنشاء معاهد الاستغراب، إنما نأمل في أن يكون لها بعد التقصي والتفحص والتمعن والانتماء إلى الحقيقة، كي يتسنى لنا النأي عن التمظهر المخيف، والزيف المرعب، واللهاث اللافت إلى بقايا المائدة، وليس ما تحويه من وقود الحياة الحقيقي.
ولجهلنا بالثقافة الغربية، فلدينا فريقان، الأول مندهش، ومندلق، ومتدفق غثياناً وغلياناً، والثاني ممتنع، متخفٍ تحت ملاءة التخفي، والنكوص إلى عوالم خرافية، ومجازف باتجاه القوقعة المريبة، إذاً فوجود معاهد الاستغراب، سيكون له الأثر الطيب في اكتشاف المضمون، وإجلاء حقيقة هذه الثقافة التي تعد بصمة التاريخ المضيء، إذا استثنينا رواسب أحزاننا التاريخية تجاه هذا الغرب، ولا يمكن لأنه لن تعيش بمفردها مهما امتلكت من مقومات الحياة، لأن الكون هو هكذا، مركب من متعارضات حضارية، حتى تلتئم لا بد من إيجاد القواسم المشتركة، وحتى توجد هذه القواسم لا بد من المشترك للداخل الثقافي لكل من المتعارضين، وهم يفهموننا، وبالتأكيد جسوا دواخلنا عبر العديد من القنوات المعرفية، ومن بينها معاهد الاستشراق، ويبقى الدور علينا كي نبادر في فتح قنوات المعرفة، بدءاً من معهد استغرابي يقوم برصد النبضات الثقافية من دون وجل.