هل أصبحت الفلسفة عقدة أوديب ثانية في العقل المتزمت، ليبدو البحث عن رُفاتها مثل البحث عن إبرة في كومة من القش؟ ولماذا يحارب العقل المتزمت الفلسفة ويطاردها ويقمعها، كما يقمع رغبته الغريزية على الرغم من شغفه بها؟ الحرب ضد الفلسفة ليست وليدة زمننا هذا بل هي دهرية أزلية، وقد وجدت الحرب منذ أن وجد العقل الميتافيزيقي، لكون الفلسفة بنت العقل المنفتح على الوجود، بينما الآخر المتزمت جاء من رفات أنا نشأت على التسليم بالجاهزية، والقبول بوجود الغبار على المرآة كي لا يرى وجهه الشائه، هذه الفكرة الجهنمية التي صاغ حكايتها عقل موسوم بمركزية الذات، وعدم قدرتها على فتح الأبواب، خشية من دخول فراشة ملونة، قد تغير شكل الصورة النمطية التي اعتادها العقل المتزمت، إذاً القضية لا تتعلق في تقابل وجهتي نظر مختلفتين على تشكيل صورة العالم، بل هي مرتبطة برفض طرف لطرف آخر، يريد أن يفتح النافذة كي يدخل الهواء النقي في الغرفة. وهكذا فعلت الأفكار المغلقة منذ عهد سقراط، مروراً بالقرون الوسطى، وحتى في العصر الحديث، وإلى يومنا هذا، ففي أوروبا أخرج كلافليد من قبره ونكل به، وكذلك أسبينوزا، مر على قبره أحد القساوسة، فقال: هنا يرقد إسبينوزا، ابصقوا على قبره!
وقبله كان دور ابن رشد في منطقتنا الملتهبة بنكران العقل أكثر من غيرها، فقد نفي هذا الفيلسوف الفذ وأحرقت كتبه.. والقائمة تطول. ومارتن لوثر كنج المثال للعقل الذي أضاء السماء، ولكن أرض الكنيسة وقفت في الطريق عقبة كأداء كي تكسر زجاجة العقل، من أجل المضي في اللهوجة الزمانية، محمولة على ظهر معتقدين غرقوا في قاع فنجان من شهوة القنوط والسخط، على كل ما يشمل العقل، وينتمي إلى سماته الباهرة، فلا يمكن أن تزدهر الفلسفة في حضور عقل تراكمت عليه كميات هائلة من الصدأ، وبنت العنكبوت غشاءها السميك، ولم يبرز من هذا العقل غير النتانة والعفن وسوء الأحكام على العقل الإنساني. ونحن في عصر بلغ فيه العلم مستواه الأرفع، وما العلم الذي يتمتع بمعطياته هؤلاء المتزمتون إلا نتاج الفلسفة، ولم يكن أينشتاين صاحب النسبية، ولا نيوتن مفجر الجاذبية، ولا أديسون، وغيرهم، إلا فلاسفة في الأساس، ومن يرفض الفلسفة فإنما هو ضد العقل الذي جاء بأعظم النظريات العلمية.