عند كل شروق شمس تمد يديها إلى موقد النار، لتشعل دفء الصباحات بحليب الحياة، وتضم الأجساد الصغيرة بيدين أرهف من ورق اللوز، وأرق من سلسبيل الماء، وأحنى من ظل السامقات اليافعات الباسقات المتحدرات من أبدية التاريخ. كنّ في الأرض أشجاراً وارفة باخضرار الأفئدة، كن في الحياة رفيق حلم، كن تحت السقف سجادات من مخمل العذوبة، كن في الليل حمامات تلم تحت أجنحتها فراخ التغاريد، كن في السهر أناشيد الفرح، كن في الهزيع نافلات الصلوات الأخيرة، كن في الشفع والوتر أدعية ترتفع إلى المولى، بشفاعة وضراعة وخشوع، وكان الصغار أوراق تين وزيتون ورمان، تهفهف بين يدي الضارعات المحتسبات للبارئ عز وجل. في الزمن الجميل، ما كانت يد تمتد لصغير، تكفكف دموعه سوى الأم الرؤوم، وما كانت يد تسقي أو تطعم سواها، سيدة الوجه الحشيم، موردة بابتسامة الحلم، والحلم والناي الحليم، يعزم لحن الخلود على شفتين مبللتين بندى الشفافية، والحياة مرسومة على بريق عينين لامعتين بالحب، وتفاني القلب الكبير. في الزمن الجميل، كانت هي وحدها تقف على عتبة باب العودة، في انتظار الفلذات، متى ترفل بابتسامة الطفولة، وتهجع في مخادع الألفة، وشرشف الانتماء إلى أم تحنو، وأب يلطف، وأخ كبير يعطف. في الزمن الجميل، كان ثوب الأم الشفيف، يفيض بعطر الوفاء، ويزخر بلون الأجنحة السابحة في ثنايا الكون، وكانت هي النهار الذي يفضي إلى بياض المراحل المبجلة، وكانت الغيمة على رؤوس الأشهاد، ترخي ظلالاً من ندى، وتزف بشرى الأيام المقبلة بفم عذب، ناهل من نبوغ السلالات النبيلة، يدها على رأس الصغير، ووجهه في جوف النهر، تسقيه من نبع المروج، وتلتهمه قوة المعنى وعزيمة البوح، وصلابة النهوض إلى مسعى لا يرخيه، ولا يثبط به إرادة، لأنه من نسل لا يلقي بالفراخ خارج العش، ولا يتخلى مسؤولية، فالكل في البيت شجيرات تظلل بعضها بعضاً، وترسم الاخضرار بساتين حياة وحقول ازدهار، الأم في الجوهر، مدرسة وكتاب مفتوح، والمقرئون يتلون آيات العبر، والمثال والدرس يتلى في حضور العاشقين للاستتباب، ومن دون غياب أو استلاب، إنها الأم التي تدير مؤتمر الحياة بمكانة ورزانة وأمانة وقدرة فائقة على الإمساك بإبرة الحياكة، وسف خيط الأحلام في قماشة الأسرة، ليصبح البيت سجادة من حرير التلاقي، وموجة تغسل الشغاف من كل ما يكدر ويسدر. هكذا هي كانت، وكيف أصبحت، وما بين زمنين تغيب شمس وتعتنق الأم مبدأ «أنا ومن بعدي الطوفان».