عرّت تظاهرات السُتَر الصفراء «Les gilets jaunes» النظام الرأسمالي العالمي، والانتهازية الاقتصادية الضريبية التي تقتص من الفقير، وتعفي الغني، وتثقل على الطبقة الوسطى التي هي أساس النظام الأوروبي، ومن أجلها قامت الثورات التحررية كالثورة الفرنسية، وقامت من أجلها حربان عالميتان، وهي اليوم المقصودة بالانتهاك الضريبي، ورفع أسعار الأشياء الأساسية في الحياة، كالوقود ومقتضيات الحياة الضرورية، حتى غدت المعيشة صعبة للغاية من ناحية التسيير المالي، ومن ناحية ضغوطات الوقت، ومن ناحية الأجور التي لا تسعف الحياة الاستهلاكية لا الكمالية في ظل تآكل لمؤسسات الضمان الاجتماعي والصحي، ورفع الغطاء عن الدعم الحكومي أو الاستيفاء من الضرائب المتعددة على المواطن الفرنسي والأوروبي، لهذا يخاف من تلك الشرارة التي انطلقت في باريس أن تمتد بأكل هشيمها في دول الجوار الأوروبي.
اتخذ أصحاب تظاهرات السُتَر الصفراء التعري كنوع من الاحتجاج، وسقوط الأقنعة العولمية، وورقة التوت الكوكبية، ومهاجمة رموز الشره التجاري، والمبالغة في الاقتناء الباهظ كنوع من مظاهر أرستقراطية يعدونها كاذبة ولا تمثل الباريسيين بالذات، والفرنسيين بوجه العموم، فكان التخريب والنهب في الممتلكات العامة والخاصة، وهو أمر غير بعيد عن ثورة الهامش والمركز في عهد «ساركوزي» وضد القوى اليمينية والمتطرفة منها، حينما قرروا بطريقة غير مكتوبة بعزل الهامش وتحييده وإهماله، مقابل الاهتمام بالمركز الخاوي من أي كثافة سكانية وطبقة عمالية وبطالة كبيرة ومهاجرين ومواطنين من أجيال ثلاثة وأربعة من مخلفات الاستعمار الفرنسي في أفريقيا وما وراء البحار، وحروبها في آسيا والهند الصينية، حينها نهض الهامش مطالباً بأبسط الحقوق والامتيازات كمواطنين يعدهم اليمين المتطرف مواطنين من درجة ثانية، واليوم هم نفسهم من يقوم بالتظاهر ضد الآلة الصناعية الزاحفة، وضد نظام لم يقدم له فيها اليسار غير خطب رنّانة، وتنظير أيديولوجي بغيض، ومصطلحات عفا عليها الزمن، ولَم يسعفه اليمين بغير أطروحاته الشيفونية والقومية التي باتت تضيق بالمواطن الكوكبي «الكلوبالي» الذي تنشده الأنظمة الجديدة في عديد من الدول وتدعو له كتبنٍ مستقبلي للمواطن الإلكتروني «.E Citizen»، هذه التظاهرات ليست ضد «ماكرون» في المقام الأول إنما ضد نظام لا بد أن يتغير في أوروبا الموحدة، فالمواطن مستهلك ومثقل بأعباء الحياة اليومية وتفاصيلها الأساسية من مسكن وملبس ومأكل ومواصلات وتأمين صحي وتعليمي وضمان اجتماعي، حتى بدأت تظهر نغمات كانت في البداية ضد دساتير الدول الأوروبية، وبعيدة عن الأممية والإنسانية، والحقوق الحضارية لثرواتهم الكبرى في العدل والإخلاء والمساواة، فظهرت إشارات قد تكبر غداً بطرد المهاجرين، وقفل الحدود عن اللاجئين، والتشديد على منح الجنسية الأوروبية، وغيرها من حقوق الإنسان في نظام عالمي يسمى «موندياليزاسيون أو كلوباليزيشن»، وهو من تباشير القرن الجديد الذي سرعان ما ظهرت دعوات ضد العولمة أو العولمة المضادة «Deglobalization» أو على الأقل تقنينها وجعلها أكثر إنسانية إذا ما كان هدفها الأساسي الإنسان وسيرورة حضارته الراقية.
فرنسا غير مستقرة، ومنها تبدأ دائماً الأشياء التي يسجلها التاريخ لريادة هذه الدولة في تغيير مسارات الإنسان، وقد قالها مرة ذلك الرجل التاريخي «فرانسوا ميتران»: «أنا آخر الرؤساء التاريخيين، ومن بعدي لن يأتي إلا رجال مال ومحاسبون»!