رجّ الغاضبون الأرض، وزمجروا، وتجمهروا يهتفون ضد الصبر. وما نالوا سوى التأسّف كأساً يتجرعون سُمّها في حفلة الحسرات. والغضب الذي ظنّوه يفتحُ شرخاً في جدار القدر، إنما كان سداً لأفق انطلاقهم نحو الخلاص من الضيق، والفكاك من أسر الأسى. ويوماً بعد يوم، يظل الغضبُ يأكل أصابع صاحبه حتى لا يعود يقوى على حمل قلم. ولا تعود رجلاه تعرفان من أين يبدأ الصواب، وإلى أين ينتهي صراط المتاهة. يولدُ الإنسانُ منفياً من سكينة العدم، لكنه يظل طوال العمر في حنين أبدي لها. يشتاق للهدأة، وتتوق أعماقه للتفاهم مع الكون والكائنات والريح. والناسُ في لهاثهم الأعمى وراء الزوائل والفراغ، إنما يخسرون الطمأنينة التي وُلدوا بها. ومن يخسر الاطمئنان، لا تعود حياته سوى جرياً وراء الفجر الكاذب، ومجرّد ترحال في دائرة مفرغة. ذلك لأن النور الحقيقي الذي نفتّش عنه، هو الذي نستشعره في عتمة الأعماق، هناك في الجوهر الصافي الدفين للنفس، حيث لا أصوات تعلو، ولا أنوار تصدحُ. والبصيرة التي يتلهّف المتأملون إلى الدخول في غمرة كشفها، إنما هي درجة من الإدراك الخفيّ والحسيّ لعلاقة الداخل بالخارج، ودرجة عالية من القدرة على استشعار الخلل والنشاز في غناء الطبيعة من خلالنا. والحقيقة التي ظل الواهمون يلاحقون سرابها، إنما هي بلا شكل، ولا تتجلى للعارفين إلا حين يغرق المريد في السكينة العظمى ويلامس نبع روحه الأول. بلا أصداء وبلا كلمات، مجرّد جوهرٍ محضٍ في ذاته بلا زيادة أو نقصان. وهذا هو شكل الحقيقة اللامرئي. هل يُعمينا الغضب عن الإصغاء إلى صمت الحقيقة؟ بالطبع نعم. ولكننا بحاجة ليس إلى ترويض الغضب، وإنما إلى تدريب الروح على الاغتسال من كل عوالقها المزيفة، من الأصوات التي هي نبحٌ بحروفٍ ناعمة. من وهم الكمال أو السعي إليه ولكن عكس اتجاه الطريق. من إطلاق الأحكام المطلقة ونحن لا نرى سوى الجانب المجزوء من الكل. والمريدُ، عندما يقفز كل يوم متطهراً في نهر الضوء، وحين يظل يعاندُ التيّار الذي يشدّه لضدّه، وينفخُ على غرور الريح ويعيدها لصوابها، عندما يفعل ذلك كله، لا بد يوماً يقترب من معناه، وربما لامست شفتاهُ نعيم الاتصال والتناغم والوحدة مع الخليقة في لحظةٍ غامرة لا يعادلها ملكُ الكون كله. Adel.Khouzam@alIttihad.ae