من الأمور التي يتندر عليها المسافر فيما بعد، وبعد أن تنقضي سنوات من التجوال، تلك التفاصيل الصغيرة في السفر، والتي جلبت البسمة وقتها للأصدقاء، رفاق السفر، وبقيت تضحكنا لأيام قبل أن يطويها النسيان، وتستقر في قاع الذاكرة، ليأتي أي شيء بسيط، ويوقظها من سباتها، ويضعها على خط التذكر، واستدعاء البسمة الغائبة. - مرة كنّا في جمع جميل، قاصدين بودابست الخالدة، وقد حظيت بزيارة هذه المدينة مرتين، مرة أثناء العزلة القسرية، وسيطرة نموذج المعسكر الشرقي، ومرة بعد التخلص من ربق هيمنة الحزب الواحد والانفتاح على أوروبا والعالم، ولن تشعر بالفرق الكبير إلا إذا كنت واعياً في الزيارتين، ففي المرة الأولى ما أن يخيم الظلام حتى تهجم الكآبة بكل وحشيتها على كل الأشياء بما فيها الإنسان الذي سرعان ما يتحول من حيوان داجن يعيش ليعتاش لقمة يومه إلى إنسان تجرحه دموعه، ويريد التطهر من أوجاعه التي انتهكت حريته، وصيرته إلى مواطن أشبه بـ «البرغي» الحديدي في آلة عملاقة لهديرها رائحة الموت، أما في المرة الثانية فثمة فرح يطغى على المدينة، وثمة طيور الليل تبحث عن ملاذ لغنائها، هناك مطاعم بدأت تعرف السهر الراقي، والعشاق لا خوف عليهم من أولئك المخبرين الذين يرتدون معاطف خبّازية أو ضاربة للون الترابي الساحلي، واكتشف الناس أن لمدينتهم زهوا كان غائباً عنها وعنهم. خرجنا شبعى من أكل «الكولاش»، وما يتميز به البيت الهنغاري، ونشوى من تلك الموسيقى الصادحة من أرض المجر، وما مر عليها من شعوب وقبائل وغجر، وبعد تلك البراحة والسعة في تلك القلعة التاريخية، حشرنا في حافلة خاصة، والحافلة مهما أردت تزيينها وملاطفتها تظل أقرب للنقل العام، بحيث يمكن أن «تشبر عليباء» الجالس أمامك، والذي يحجب عنك المنظر الليلي؛ لأن هناك حقيقة لا أخفيها وهي يعجبني منظر الحجر القديم الذي ترصف به الطرق، خاصة إذا ما جسه مطر أو تساقطت عليه قطرات كانت محبوسة في غيمة شرود، فأعطته تلك اللمعة المحببة، ظللت أتغزل بنفّات المطر، وما يفعل من ضجيج جميل على صفحة خد الحجر، وتذكرت أغاني لـ «إديث بياف، وفرانك سيناترا» وما يستمطر الليل من حواريات مع النفس، وأصدقاء الرحلة أحدهم يومئ، وآخر يهز رأسه إعجاباً، وآخر يقول: «خلّوه يهل اللي في رأسه.. أحسن ما يبات يهاذي به»، وآخرون ظلوا يسايرونني في الوصف واشتقاق الكلمات وانتقائها، خاصة أن الطريق الحجري ظل يشع بالتماعته، وقبل أن نصل للفندق، قالوا لذلك «الضيخ» الجالس أمامي، ويسد طريق نظري بعليبائه: «ضك.. شوي خلّ ناصر يشوف ساد عليه النظر»، ساعتها فقط أدركت أن سائق حافلتنا كان يتبع سيارة البلدية أو سيارة الرش والنظافة التابعة لبلدية العاصمة، وأن لا مطر في تلك الليلة، ولا التماعة حجر في تلك المدينة، ولا «إديث بياف، ولا سيناترا»، فجأة تحطمت تلك الصورة الرومانسية، وسط ضحكات الأصدقاء الذين لا ينسون عادة..