تحدث كما تُريد. ولكن عليك أن تعلم أنك أنجزت لو أوجزت، وقد تكون اجتزت وهمْ أنك الأدرى، وتجاوزت الحاجز الذي يُجيز لك نفي الآخرين. هذا وإلا عليك بالصمت، فيه بلاغة النبوغ، وفيه انحيازك للوسط، واجتيازك لمحنة الرأي. وما بين الكلام والصمت، نهرٌ لو عبرته نلت مجدك، وتفتّح وجدك، واستبشرت بقدومك أسارير قومك. وُلد الكلام أول مرة من فم امرأة خرساء. كان الرجال قد امتهنوا التأمل في الجبال، والنساءُ حبسن دموعهن في حفلات الولادة، واكتفين بإطلاق الزغاريد. لكن إحداهن، حين هزّت طفلها ولم ينطق، وحين هدهدت عليه بأهدابها ولم يلتفت. خرجت باتجاه البحر، وأطلقت زئيراً أيقظ الموجة من سباتها، وبثّ في عروق الهواء شهوة العاصفة. ثم تلبّدت الحياة بغيوم سوداء وبرقٍ أزرق. ولأوّل مرة سمع الناسُ وعيد البرق يرنُّ في سكينة المطمئنين، وينعش فكرة الخوف في قلوبهم. قالت المرأة: أحب الحياة نهراً أخوض فيه ولا أغرق. ورآها رجلٌ كهلٌ وهي تحفر في الرمل لتدفن ماضيها وتذهب بلا رجعة. بعدها، نزل الرجالُ من عزلة الفراغ وفي أيديهم أقلامٌ مسننةٌ، وراحوا يحفرون الحروف على صخرة السرد، مرددين سيرة المرأة التي قالت أولاً للموت: لا. وقالت ثانياً للحياة: نعم. ولكن لم يعرف أحدٌ أين انتهت خطواتها، وربما ذلك لا يهم. ولد الصمتُ أولاً من ارتطام الفراغ بالفراغ، وتشكّل أولاً على هيئة فكرة تجوب المسافة الحذرة بين عقلٍ حرٍ، وقلبٍ جبان. كلما خرج طفلٌ للحياة وبكى، فرّ الصمت إلى الغرفة المجاورة، وظل يتربّص بالموشكين على الموت. وكلما التقى العاشقات في القبلة الخالدة، تسرب الصمت بين شفتيهما وتمنى لو تدوم إلى الأبد. وكان الحكماء والزهّاد أول من فطنوا إلى نعمة الصمت فراحوا يبجلونه في الخلوات، ويقدّسون صوته. وكان الثرثارُ، أوّل من رأى في الصمت سكين موته. وكان البدويّ في صحراء التهادي، أوّل من روى بالصمت سيرة الزوال، حين رأى الريح تمحو أثر العابرين، والرملُ يأكل خطواتهم كلما ابتعدوا في دوائر الترحال. وكان الفيلسوف أول من تساءل: لماذا اختارت الجبال الصمت، وهي سليلة الجبروت؟. وكان الحكيمُ أول من تنبّه إلى صمت القلب، واعتبره صوت الحقيقة الذي لا يسمعه حتى صاحبه. بين كفتيّ الكلام والصمت يسقط كثيرون، وباب النجاة منهما لا يُفتح، إلا لمن يوازن بين الكلمة ونقيضها. Adel.Khouzam@alIttihad.ae