كلما نزلت في محطة «Gare du Nord» الباريسية أو سافرت منها، تنتابني حالة من الضحك الخفي، والمخزّن، قد لا تدركون سبب ذلك الضحك، وحدي من يعلم، تلكم قصة ذلك الدمع البارد في العيون، ونشاط القلب المفاجئ؛ ذلك حينما تعدى صديقي نجم عبد الكريم السبعين بقليل، وهو يقول: هلّ من مزيد؟ لم يعلن عن ذاك العمر صراحة، بل بدأت الركب تخون به، واحتاج لعصا يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى، ولكونه «مواطناً إنجليزياً» فقد هبّت الجمعيات التي تقدم خدمات إنسانية للمعاقين، ولذوي الاحتياجات الخاصة، تراسله، وتتمنى عليه أن يتقبل خدماتها الواجبة عليها نحو مواطنها، وتسهيل سفراته، وتقديم المعونة له كدافع منتظم للضرائب، لتجاوز محنته، دونما أي امتهان لكرامته وإنسانيته، ولو كانت بنظرة عطف من الآخرين، فإذا سافر من لندن إلى باريس بالقطار كعادته، فإنه سيجد هذه المرة معاملة خاصة، فهناك من سيحمل عنه حقائبه، ويسهل حركته في المحطة، ويصعد به في مصاعد خاصة، ويجلب له كرسياً متحركاً إن احتاج، وهناك من يرفع حتى مظلته إن كان الجو ماطراً، وحينما يصل باريس سيجد التدابير نفسها متوفرة له في المحطة. ومرة.. تواعدنا أن نلتقي في محطة «Gare Du Nord» هو قادم من لندن، وأنا سبقته لباريس لنذهب مباشرة قبل أن يغلق المستشفى أبوابه ليرى بنته «الأميرة» وهي تفتح عينيها للحياة، ويفرح هذه المرة كأب، وليس كجد، كنت أنتظره في المحطة، لأن الجو كان بارداً وممطراً، وكعادة نجم يمكن أن يتصل بك أربع مرات، ويتصل بصديق يعرفك، لأنه لم يجدك في المكان الذي في رأسه، وليس المكان المتفق عليه، بعبارة أخرى هو أحد المربكين في الحياة، ولأن شخصاً بحجم جثة نجم، لا يمكن أن تخطئه العين، وإن أخطأته العين، فلا يمكن أن تخطئه الأذن، لأن صوته مسرحي، وهو لا يمكن أن يصمت طوال خمس دقائق، رأيته محاطاً بحماليّ المحطة، أحدهم أفريقي، وآخر مغربي، وواحد مهاجر من البرتغال، وإذا بهم يسوقون حقائبه التي تشبه «شنط الحجاج» وصورة شخصية بحجم لوحة جدارية معجب بها، رسمها له فنان فيليبيني على عجل، وكرتونة لا أعرف بالضبط ما بها، وما هي مناسبة جلبها لباريس، وأكياس تبدو في هيئتها الأولى أنها هدايا غير منتقاة، فاستقبلته بجملة: «أهلاً بالحاج نجم»، حاولت بقدر ما تسعفني الفرنسية أن أجد سيارة تكفي لحمل هذه الأغراض، وحاول حمّالو محطة باريس من ناحيتهم أن يربّحوا زملاء مهاجرين مثلهم يترزقون بنقل المسافرين بطريقة غير شرعية، لكن جل سياراتهم من مسروقات بلجيكا أو سيارات فرنسية ضيقة، ومستعملة من قبل أكثر من واحد، وحاولت جمعيات رعاية المعاقين، وجمعية المسنين، تعاونها جمعية المحاربين القدماء دوماً أن ترى الابتسامة على وجه منتسبيها، كما حرصت على أن تضم نجم إلى صفوفها قبل أعوام، وهو يتمنع، رغم أنه تخطى «منتصف أعمار أمتي»، حتى وجدنا سيارة سوداء كبيرة من التي تظهر في الأفلام عادة عند عمليات الخطف.. وغداً نكمل. amood8@alIttihad.ae