الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نيكانور بارا شاعر ضدّ الشِّعر

نيكانور بارا شاعر ضدّ الشِّعر
1 فبراير 2018 02:28
في الأنطولوجيا الجماعية التي صدرت في وطنه عام 1948، كتب الشاعر التشيلي نيكانور بارا: «أبحث عن شعرٍ يرتكز على «أحداث» وليس على تركيبات وصور أدبية. أعارض الشكل المصطنع للغة الشعرية التقليدية. لغة دوستويفسكي وكافكا وسارتر الصحفية تتناسب مع مزاجي أكثر من بهلوانيات غونغورا أو أي شاعر «حداثوي» آخر. أنا أيضاً ضدّ الرومنطيقية الحصرية، فالقلق واليأس والحنين هي بعض جوانب النفس البشرية، وأفضّل شخصياً العمل انطلاقاً من الإحباط والهستيريا الحاسمَين في الحياة الحديثة». وهذا ما يستنتجه قارئ الأنطولوجيا الضخمة (700 صفحة) التي صدرت حديثاً عن دار «سوي» الباريسية وتتضمن جميع نصوص مجموعة هذا العملاق الشهيرة «قصائد وقصائد مضادّة» ومختارات واسعة من مجموعاته اللاحقة، مرفقةً بترجمة فرنسية لها. تهديم الشعر.. تحريره شاعر التناقضات بامتياز، بارا الذي توفي منذ أيام قليلة عن عمر ناهز الـ 103(من مواليد 1914)، هو أيضاً المغامر الذي جرّد الشعر من هالته القدسية منذ مطلع الخمسينيات في ديوان «قصائد وقصائد مضادّة» (1954) الذي نلجه كما نلج عيادة طبيّة مارس الشاعر داخلها جراحة شديدة الدقّة من أجل تحرير الشعر وتجديده، مبتكراً في طريقه شعراً مضادّاً هو، بشكلٍ ما، نوعاً أدبياً لزمنِ محنةٍ. غاوٍ لا يكلّ وعاشقٌ أبداً، لعل البورتريه الأكثر دقّة له هو ذلك الذي خطّه بنفسه في قصيدة «نقشٌ على قبر»: «متوسّط القامة/ صوتي لا رقيق ولا جهوري/ الابن البكر لمعلّم/ وخيّاطة متواضعة/ (...) لست ماكراً ولا أبله كلّياً/ كنتُ ما كنته: خليط/ خلٍّ وزيتِ طبخ/ مسخ ملاكٍ ووحش». بورتريه قد يبدو فكاهياً للوهلة الأولى، لكنه يتضمن جميع المفاتيح الضرورية لفهم شخصية بارا وشعره، وأوّلها نشأته داخل عائلة بوهيمية شكّلت أرضية خصبة لانبثاق ذهنيته التحرّرية، وتأثّره خصوصاً بوالده الموسيقي و«الديّوسيّ» الشخصية، مصدر الدعابة الأول في شعره المضاد: «الخطوط الرئيسية للشعر المضاد كانت موجودة في خُلُق والدي». وبسلاح الدعابة اللاذعة التي لا تخطئ هدفها، وضع بارا أُسُس تلك العملية التي تُمكِن تسميتها بـ «الفنّ الهدّام» من أجل محاربة الرؤية الأنطولوجية (ontologic) الرائجة للشاعر وعالمه. وفي هذا السياق، كتب في نصّه الشهير «بيان» (1963): «الشاعر ليس خيميائياً/ (...) إنه شخص مثل الآخرين». نصٌّ انتقد فيه بعنفٍ شعر «الإله الصغير» (فينشينتي هويدوبرو) و«البقرة المقدّسة» (بابلو نيرودا) و«الثور الغاضب» (بابلو دي روخا)، مفضّلاً التوجّه إلى قارئه بقوة دائمة التجدّد في نصوصه، مصدرها اللغة المحكية التي مدّها بالعلاج الوحيد الذي يبقيها حيّة، أي الـ «هنا» و«الآن» الجديدين أبداً، مثل مياه نهر هيراقليط. ومن هذا المنطلق، أدخل إلى خطابه الشعري جمَلاً نمطية تحضر على شكل أخبارٍ أو ريبورتاجات صحفية أو إعلانات تجارية أو معلومات علمية أو بيانات إدارية، وتخاطب مباشرةً القارئ، كما في «تحذير إلى القارئ» أو «الجبل الروسي» أو «شهادة استقلال»، كما استعان بتجربته العلمية، كأستاذ مادّتي الفيزياء والرياضيات، من أجل إدخال صياغات فيزيائية ورياضية في شعره. أما السخرية اللاذعة التي شحن بها قصائده المضادة، فبقدر ما تعكس حاجته إلى الاستقلال والتمايز عن الشعراء الذين سبقوه، وبالتالي حربه على الاستعارة وسعيه إلى تجريد كتابته من أي أثر تفخيمي أو هرمسي، بقدر ما تبيّن دَيْنَه للحركات الطليعية الأوروبية: «لم تكن ولادة القصيدة المضادة ممكنة من دون الدادائية والسورّيالية وكافكا وشابلين»، صرّح في أحد حواراته. وبواسطة هذه السخرية، تمكّن من تفجير الحدود التي تفصل بين الشعر والنثر، وبين الشعر والفلسفة أو العلوم الاجتماعية، لاقتناعه بأن الأمر يتعلّق بسيرورة شاملة، مناهضة للثنائية، وفي حالة تجدّد مستمرّ. ولهذا السبب، بدأ العمل في نهاية الستينيات على نصوص قصيرة جداً (Artefactos) ومزيّنة بالصور صدرت عام 1972 على شكل بطاقات بريدية مستقلة وسجّل فيها قطيعة مع بنية الكتاب التقليدية والخطاب الشعري المضاد بالذات، كما سجّل، بطريقة تصميمه إياها، خطوة حاسمة نحو انحلال هوية الكاتب داخل خطابه. فحين نطّلع على هذه البطاقات التي تحمل كل واحدة جملة حِكَمية غير موقّعة وصورة، لا نعرف مَن يتكلم فيها، ما يخلق توتراً حادّاً بين صاحبها ومتلقّي أناه المفكّكة إلى جُمَل جاهزة سلفاً. سخرية مُرَّة ولفهم هذا العمل المبتكَر، لا بد من العودة إلى الوراء، وتحديداً إلى فترة اكتشاف بارا حسّ كافكا الدعابي الذي جعله يرسي في نصوصه صورة راوٍ هو عبارة عن بطلٍ مضاد يظهر كشخصية خارجة عن السيطرة، أو كـ «أنا غنائية» تحمل وجوهاً مختلفة داخل القصيدة الواحدة، وتطلق جملاً بصيرة تفاجئ قارئها وتفقده توازنه، مثل لكمة. وفي هذا السياق، استحضر أشخاصاً منتفخين بالأعراض، كما لو أنهم فرّوا من مصحٍّ عقلي، و«الأساتذة الذين جعلونا مجانين» وحفّار القبور وإنسان المغاور وجحافل السيّاح وشعراء جيل الـ «بيت» وأبطال مجهولين وآخرين حالمين وهاذيين، إضافةً إلى ماركس وفرويد والمؤسسات الدينية البالية. وفي معرض بحثه الدؤوب عن الشكل التعبيري الأكثر راهنية، شقّ طرقاً موازية قابل فيها النص بالصورة، كالأعمال التي فبركها عام 1952 مع رفاق له من قصاصات صحف وعرضها في شوارع سانتياغو المركزية، وتشكّل تطبيقاً أدائياً مبتكراً لتقنية «الجثة اللذيذة» السورّيالية، أو مجموعة «عِظات مسيح إيلكي» (1977) التي أعاد فيها إحياء شخصية المبشّر دومينغو زاراتي فيغا كقناع غنائي، هاذٍ وغير زمني، سمح له بفضح انحرافات الحياة الحديثة وانتهاكات دكتاتورية بينوشيه. نصوص فكاهية ومؤثّرة كتبها على شكل عِظات وذهب فيها بمفهوم الشخصية الشعرية إلى حدودٍ عبثية قصوى. ولا ننسى «الأعمال العامة» التي أنجزها في نهاية السبعينيات، وهي عبارة عن قطع جاهزة سلفاً تحمل كتابات بخطّ صغير وتشكّل تحية لمارسيل دوشان، مبتكر الـ Ready made. قطع ما لبثت أن قادته إلى «ألواح إيسلا نيغرا» التي تتكوّن من ألواح من ورق مقوّى زيّنها برسوم وجُمَل بخطّ يده. لا ننسى أيضاً «القصائد الإيكولوجية» مطلع الثمانينيات، وهي نصوص قصيرة جداً تحضر بشكل مجهري وتذكّر بالطبيعة العضوية للأشياء وبحتمية تحلّلها، والبيانات الإيكولوجية خلال التسعينيات التي انقضّ فيها على النزعة الاستهلاكية لمجتمعاتنا التي «تحوّل كوكبنا إلى مكبّ نفايات». باختصار، مسيرة طويلة ومليئة بالإنجازات نتآلف مع جميع مراحلها داخل الأنطولوجيا الصادرة حديثاً التي تسمح أيضاً، بتوفيرها شعر بارا أخيراً بالفرنسية، بفهم الأسباب الحقيقية التي تقف خلف حذره طوال حياته من تأثيرات الشعر الفرنسي عليه، وتقويضه أكثر من مشروع لنشر قصائده بالفرنسية. فحين نقرأ هذا الشاعر بلغة رامبو تتجلّى لنا تلك القرابة الكبيرة والمربِكة التي تجمعه بالكثير من وجوه هذا الشعر التاريخية، بدءاً بشعراء التروبادور ومروراً بفرنسوا فييون ورابليه، وانتهاءً بمارسيل دوشان والشعراء السورّياليين الذين ابتكروا اللغة الشعرية اليومية أو المحكيّة، أي جاك بريفير وريمون كونو وهنري ميشو. وفي حال أضفنا أن حتى عبارة «قصائد مضادة» (Antipoemas) استوحاها بارا من عنوان ديوان للشاعر الفرنسي هنري بينشيت (Apoèmes)، لتبيّن لنا مدى تأثّره بالشعر الفرنسي، مهما حاول إخفاء ذلك. قليل من الزَّبد يلمع داخل كأس قصائد من: نيكانور بارا ............................................ أسئلة خلال وقت الشاي هذا السيد الشاحب يبدو مثل وجهٍ في متحف الشمع؛ ينظر من خلال الستارات الممزّقة: أيّهما الأفضل، الذهب أم الجمال؟ الجدول الذي يتحرّك أم العشب البرّي الذي يلازم الضفة؟ نسمع في البعيد جرساً يفتح جرحاً إضافياً، أو يغلقه أيّهما أكثر حقيقةً، ماء النبع أم الفتاة التي تتمرّى فيه؟ لا نعرف، يمضي الناس وقتهم في تشييد قصورٍ على الرمل أيّهما أرقى، الإناء الشفّاف أم اليد التي تخلقه؟ نتنفّس مناخ مللٍ من رمادٍ، من دخانٍ، من حزنٍ ما رأيناه مرّةً أبداً لن يعود بالحلّة نفسها، تقول الأوراق اليابسة. إنه وقت الشاي والخبز المحمّص والزبدة، والكلّ مغلّف بنوعٍ من الضباب. رسائل إلى امرأة مجهولة حين تكون السنوات قد مرّت، حين تكون السنوات قد مرّت، حين يكون الهواء قد حفر هوّةً بين نفْسِك ونفْسي؛ حين تكون السنوات قد مرّت ولا أعود أكون سوى رجلٍ أحبَّ في الماضي، كائنٍ توقّف لحظةً أمام شفتيكِ، رجلٍ مسكين ملَّ السيّر في الحدائق، أين ستكونين، أنتِ؟ أين ستكونين، يا ابنة قبلاتي! غزلية في ليلةٍ ما سأصبح مليونيراً بفضل شيءٍ سيسمح لي بتثبيت الصور في مرأةٍ متقوّسة. أظن أن النجاح سيكون كاملاً حين أتمكّن من ابتكار نعشٍ بعمقٍ مزدوج يسمح للجثة بتأمل العالم الآخر. لقد أحرقتُ رموشي كفاية من قبل في سباق الخيل العبثي ذلك الذي يُقذَف فيه الفرسان من على مطيتهم ويقعون بين الجمهور. إذاً من الصائب أن أحاول ابتكار شيء يسمح لي بالعيش على نحو لائق أو على الأقل بالموت. أنا متأكد من أن ساقاي ترتجفان، أحلم بأني أفقد أسناني وأصل متأخّراً إلى دفنٍ. الثروة لا تحبّ الثروة مَن يحبّها: ورقة الغار الصغيرة هذه وصلت متأخّرةً سنوات. حين أردتها كي تحبّني سيّدة بشفتين بنفسجيتين رفضوا مراراً منحي إياها والآن، بعدما صرتُ عجوزاً، حصلتُ عليها. الآن، بعدما لم تعد تفيدني بشيء. الآن، بعدما لم تعد تفيدني بشيء رُمِيَت في وجهي مثل ملءِ مجرفةٍ من تراب. متسوّل في المدينة لا يمكننا أن نعيش من دون وظيفة معروفة: الشرطة تسهر على احترام القانون. بعض الناس جنود يريقون دماءهم في سبيل الوطن (هذا بين هلالين) بعضٌ آخر تجّار فطنون يسرقونك بغرامٍ أو غرامين أو ثلاثة غرامات في كيلو الخوخ. وثمّة كهنة يتنزّهون بكتابٍ في يدهم. كل واحد من هؤلاء يعرف رزقه. ما هو رزقي برأيكم؟ الغناء شاخصاً إلى النوافذ المغلقة كي أرى إن ستُفتَح ويُرمى لي بقطعة نقود. فعلُ استقلالٍ بغض النظر عن أهداف الكنيسة الكاثوليكية أُعلنُ أني بلدٌ مستقل. في سنّ التاسعة والأربعين يحق للمواطن أن يتمرّد على الكنيسة الكاثوليكية. فلتبتلعني الأرض إن كنت أكذب. الحقيقة هي إني سعيدٌ في ظل شجيرات الميموزا المزهرة هذه المكوّنة بقياس جسدي. سعيدٌ للغاية على ضوء هذه الفراشات المتألّقة التي تبدو كأنها مفصَّلة بمقصٍّ على قياس روحي. فلتغفر لي اللجنة المركزية. سانتياغو (شيلي) في التاسع والعشرين من نوفمبر 1963 بكامل إدراكي. النجدة! لا أعرف كيف انتهى بي الحال هنا كنت أركض سعيداً وراضياً خلف فراشة متألّقة تملأ قلبي بالفرح، قبّعتي في يدي اليمنى حين انزلقتُ فجأةً إثر خطوة ناقصة لا أعرف ما حصل للحديقة تغيّر مشهدها العام كلياً: وها أنا أنزف من فمي وأنفي. حقاً لا أعرف ما حصل أنقِذوني مرةً واحدة وأخيرة أو أطلِقوا رصاصةً في عنقي أسحبُ كل ما قلته قبل أن أرحل يحقّ لي بأمنية أخيرة: أيها القارئ الكريم احرق هذا الكتاب إنه لا يمثّل ما أردتُ قوله مع أني كتبته بدمي لا يمثّل ما أردتُ قوله. حالتي حزينة إلى أبعد حدّ ظلّي تفوّق عليّ كلماتي انتقمت مني. اعذرني أيها القارئ الصديق على عدم تمكّني من مغادرتك بعناقٍ صريح: أغادرك بابتسامة حزينة وقسرية. لعلي لستُ سوى ذلك لكن اصغِ إلى كلمتي الأخيرة: أسحبُ كل ما قلته. بمرارة العالم الكبرى أسحبُ كل ما قلته. أزمنة حديثة نعبر أزمنة كارثية من المستحيل أن نتكلم من دون أن نقترف جرم التناقض من المستحيل أن نصمت من دون نصير متواطئين مع البنتاغون. نعرف جيداً أن لا بديل جميع الدروب تقود إلى كوبا لكن الهواء وسخٌ والتنفّس فعلٌ عفوي كاشِف يقول العدو إنه خطأ البلد كما لو أن البلدان بشر. غيومٌ ملعونة تطفو فوق براكينٍ ملعونة أشجارٌ ملعونة تنتشر على شكل طيورٍ ملعونة وكل شيء ملوّث مسبقاً. بصراحة يمكن لأحد الخطابات أن يبدأ هكذا: سيداتي، سادتي، قبل أن أبدأ بشكركم على هذه الجائزة التي لا أستحقّها أريد أن أطلب إذناً لقراءة بضعة ملاحظات سجّلتها بحرّية وأنا أهضم الخبر. ولكن هذا لا يعني أن الخطاب لا يمكنه أن يبدأ هكذا: سيداتي، سادتي، عادةً تكون الخطابات في نهاية الوليمة جيدة لكن طويلة خطابي سيكون سيّئاً لكن قصير أمرٌ لن يفاجئ أحد فأنا عاجز عن إطلاق فكرتين مترابطتين لهذا أعلن نفسي شاعراً وإلا لكنت رجلاً سياسياً أو فيلسوفاً أو تاجراً. نعم حقائق القرن العشرين الكبرى ليست في الكتب إنها على جدران المراحيض العامة صوت الشعب هو صوت الحق هذا قرأته طبعاً في كتاب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©