التاريخ مخزن الحياة، وهو أيضاً كنز من الأحداث والتجارب، والخبرات والتفاصيل الدقيقة، والمنبهات التي توقظ الوجدان الإنساني كي ينهض من سبات الأيام ويبتعد كثيراً عن منطقة الصفر المتحدة، ويذهب إلى السيولة ليبقى الإنسان دائماً محللاً، وممحصاً، ومتفحصاً، وداخلاً في صلب الكينونة متعمقاً في اللب، والصلب، ومتعمقاً في الأحشاء، جالباً الذاكرة إلى حيث تكون الحقيقة مهما بلغ بها من غموض، إلا أن السير في طريق العلامات والدلالة يجعل من الحياة مرآة نظيفة تجلو عن نفسها الغبار، كما يفعل الطير حين يلقي عن ريشه بقايا متعلقات نهار الكد والتعب في فضاء الله، وما أوجدته الأغصان الكثيفة من تلف التشابك فيما بينها.

نحن نقرأ التاريخ ليس من باعث ترف، أو تسلية، أو ما يشبه لعبة الغميضة، وإنما لأننا نقطف من التاريخ ثمرات وعينا بالواقع، ونجلب عصارة العبر، من أساطيره، ووقائعه، وخيباته، وطفراته وانتصاراته، وصور أخرى تبدو واهنة، لكنها واضحة مثل موجة على ساحل أغر، ومن لا يستقرئ من كتاب التاريخ علامة التعجب، فإنه مثل الذين أوردهم كانط في قصة الكهف، ولا أحد يجرؤ على نسيان محدثات التاريخ إلا من أصيبوا بزهايمر التجاهل، وكل من لم ينعتقوا من أصفاد المحن الذاتية والأنا المتوهمة والذات المأخوذة بذاتها.

التاريخ يعلمنا كيف أن المتجاوزين للحالة الراهنة أنهم يذهبون بالمصير إلى حافة الهاوية، ويقتادون المستقبل إلى هاوية الفناء، لأنهم يقفزون في النهر العميق، من دراية بأبجديات السباحة، الأمر الذي يجعلهم في الأخطار المباغتة، ومن لم يتعلم من شطط نيرون، وفصامية هتلر، وعنجهية موسوليني، وبارانوبا نابليون، وجشع ودموية هولاكو، وفظاظة ستالين، من لم يفهم أن التاريخ ليس نقطة التقاء ما بين الجفنين، وإنما هو تصادم قطارين امتلأ قائداهما بخدر كؤوس مترعة باللامبالاة، ومن لا يعي ما للتاريخ من قرنا استشعار يجس بهما أنثيالات الخطأ في رؤوس المخطئين، فإن مصيره لن يكون أحسن من مصير أولئك الذين فقأوا عين الحقيقة. فيا ليت حكام قطر يعلمون فلم يزل في الوقت بقية، إنْ أرادوا أن يروا العالم كما هو لا كما يتوهمون.