كم مارتن لوثر نحتاج في هذا العالم، حتى تنطفئ جمرات التصهد، والحريات التي تبرز في الحين والآخر، في هذا المكان أو ذاك. لقد ناهض الرجل التزمت والرهبنة، وقاوم عناد الذات والعزوبية وصكوك الغفران، واعتبرها نشازاً في مادة الدين الحقيقي. رفض الرجل التفرقة بين الأجناس، فلا فرق عنده بين مسيحي أو وثني، أو أي من أصحاب الديانات الأخرى.
كان الرجل بحراً في نقائه، عذباً في طروحاته الدينية والفلسفية، بحيث أوت إلى مخدعه الفكري كل الشرائح التي نأتها الأفكار المغلقة جانباً، ونفذتها من قاموس العدالة الاجتماعية، ونبذتها واحتقرت كيانها الإنساني.
اليوم دول عظمى وصغرى تسير في طريق وعر وشائك، وترسم للعالم معالم طريق أشبه بمن يمشي على كفي يديه، ويضع رأسه عند أخمص قدميه.
اليوم وقد نامت الفكرة النيّرة في فراش الخديعة، أصبح من السهل محق الحقيقة، لتطفو الأكذوبة مثل بطة البحر النافقة، اليوم والعالم يذهب إلى الدعاية والادعاء، تلاشت عن المشهد صورة الإنسان الزاهي بالحقيقة، بل إن كل ما تسعى إليه مراكز التشويه في العالم، هو اختزال عمر الإنسان في كذبة، تصبح بعد ذلك جاذبية أرضية تسقط كل الأوزان الثقيلة في غمضة عين، ولا يبقى أثر لغيمة ولا قيمة، بل الأشياء في الحياة هي كما يتصورها محترفو الكذب، مجرد ألعاب بهلوانية تنتهي دهشتها لمجرد انتهاء اللعبة، وفي مجرى هذا النهر الإنساني الملوث، نحتاج إلى لوثر جديد، يدق ناقوس الخطر في الغرب قبل الشرق، وليقول لهم إن ديمقراطيتكم المزعومة في خطر، لأنكم أصبحتم في طريق السيولة الفكرية مراكب صغيرة، تطرح بها عاصفة أضغاث أحلام، وبعض أمنيات لم تتم، لأنكم بادلتم الحرية بشبهها، وانحزتم لما يطلق عليه اللا معقول، والعالم إذ ينظر إليكم كمثال للتقوى الديمقراطية، فإنه يقع في نفس مأزق اللا إداري، حين تقع الكارثة، وهي جاهزية الإنسان في أن يفقد ذاته، إذا صرح للأنا بالمرور من دون نوازع أخلاقية تمنعها من تجاوز حدود الكينونة، والذهاب إلى فراغ اللامبالاة، واعتبار المصلحة هي الجوهر، وما عداها لا لون له.
العالم اليوم من السهل أن يورط نفسه في انحيازات يعرف أنها خاطئة، لكنه يستمرئها، فقط لأنها تمالئ المصلحة، وتحقق مشاريع ذاتية.