في رموش عينيها بلل الأسئلة، وقوافل قصيدة لم تكتمل، وعطر أنفاس متعبة، وعتاب أزلي يحمل في طياته أحلام صباك، وطفولة غيَّبت كل ملامحها في معطف الغياب، وأنت تتهجى وعيك الذي لم يزل يسف جدائل حصير افترشته لك كي تنام في حضنها، وتطلق طيور أحلامك، وتمنحها لذَّة التناغم مع نبضات قلبها الذي كان يصيغ السمع لنشيدك العفوي، وبراءة أيامك.
اليوم وأنت تسح بعرق ذهابك إلى الأمكنة البعيدة، وفي عينك بريق الزمان القديم، وهشيش رغباتك المؤجلة، وبعض أشيائك الصغيرة، وتفاصيل الهدهدات التي كانت تغريك ساعة المنام، مهد الطمأنينة، وهذه هي أمك تكبر أنت، وتشيخ الكثير من ذكرياتك، لكنك تبقى في مخبأ قلبها الصغير الذي كان يلهو بمشاعرها، ويقلقها صياحك، وأنت تدنو من ذراعيها، فتطويك تحت ملاءة حنان يفيض كما تفيض الأنهار بالعذوبة.
اليوم أشياء كثيرة تحولت إلى تماثيل من رمل، تتهدَّم وينهار خيط رفيع، بل أرفع من خيط الدمعة المنسحب من عينين تلمعان، مثل بلورة أسقطت عليها الشمس أهداب بلون الفضة، وأنت تتأمل المحيا، وكأنك أمام مرآة أزلية، لم تزل تحفظ الود مع البقاء، تنظر بإمعان، وكأنك تقرأ كتاباً مقدساً، وتتلو على وجهها سر الحنين، وأسباب الاشتياقات التي لم تعصف لها السنون، وامتداد العمر على سجادة الزمن، وأنت ترنو إلى الملامح وقد شابها الهرم، ولكن القلب هو القلب، مثل النهر تمر عليه الأيام، والوجوه والظروف، ويبقى هو يتسرب بين صخور حضورك، فيصحو فيك ألمك الوجودي، ويستيقظ سكان مهجنك، يحيطونك بنظرات قد تبدو مبهمة، لكنها متَّقدة مثل جمرات ذلك الموقد الصامد في فناء منزلك القديم، ذلك الأسطورة الباهرة، كلما زرت مكانه وأمعنت النظر في بقايا الدخان ورائحة الخبز متشبثة في طين الذاكرة، مثل عطر أمك الذي يخضب قماشة ما تبقى من رفات الأيام، وأنت تتملى الوجه المكلل بتجاعيد التعب، تستولي عليك موجة عارمة، تحتل مساحة واسعة فيك، تذوب أنت، تتلاشى، ومهما اجتهدت وتفاديت الاصطدام بحزنك، لن تتمكن من تلافي المباغتة العصيبة، لن تغادر منطقة أيام الرمل المبلل بعرق الساهرة على حلمك، القابضة جمرة اللهفة، وطوق نغنغات أول الليل، وبداية الغفوة أنت تستدعي الصورة وهي بكامل حلتها، تغرق في سجايا جبلتك، فأنت لم تزل طفلها الذي ربما غادر منطقة المكان، إلا أنه في الزمان، يسكن في مكان ما من الضلع عند وهج الوريد، في صلب الشريان، في أعماق المهجة ولوعة الانتظار.