قبل أكثر من ثلاثة عقود أو يزيد مما تعدون وتحصون، أتذكر واحداً من أبناء الحارة الذين كانوا يكبروننا بسنوات من التعليم والخبرة الحياتية التقيت به في «مكتبة القدس» في العين في مكانها القديم المتطرف، ربما غير بعيد عن «قصيدة»، وقصيدة في لهجة أهل العين، من القصد والرواح الأبدي إليها والمحتم، وتعني المقبرة، وهي لا تزال في مكانها، غير أنها أحاطت بها البنايات والمحلات، ويومها في وقتها القديم كانت متطرفة، كعادة مكان القبور، في حين انتقلت «مكتبة القدس» إلى جانب خاصرة «دوّار الساعة»، حتى أتى زمن ذهب دوار الساعة، وغادرتنا «مكتبة القدس»، ربما هذا هامش لمدخل الحديث الذي أكثر ما يكون بعداً عن ذاك الحزن والرماد، حيث النور والقلم وما يسطرون، حيث الكتاب أشد أنواع الأمور سعادة في حياة البشر ممن يستطعمون تلك اللذة والنشوة النورانية التي مطرحها الروح والعقل، وما يجعل الإنسان طائراً في ملكوت الخير وبشارة الإيمان. كان ذلك الصديق الذي غدا فيما بعد صديقاً، يكبرنا، وكان يلعب في الفريق الأول لكرة القدم، ويكاد يودع الثانوية، باتجاه الدراسة في أميركا، يومها، وأتذكر ذلك اليوم، بشكل دائم، وكأنه حقيقة هزتني، ولن تغادرني، رأيته يبحث عن كتب، وكنت صغيراً أبحث عن كتبي التي تروق لي، وسألني سؤالاً ما زال يرّن في الذاكرة: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ فقلت له من دون وعي ولا معرفة ولا إدراك: أحب أن أكون فيلسوفاً في الحياة. لا أدري لما طرأ عليّ حينها ذاك الجواب، ولا كنت أعي كثيراً ما أقول، هل كان تحدياً؟، فكرة مجنونة كانت تنبت في تجاويف الرأس؟، أم رنّة كلمة فيلسوف في الأذن، لم يأخذ كلامي على محمل الجد، ولم أكن أنا جاداً أيضاً، ولكنه كان نوعاً من التفاخر المظهري، ورغبة في قهر كبره العمري، وتقدمه في الدراسة، واستعداده للسفر إلى أميركا التي كانت تتسرب إلى الداخل من خلال أفلام «الكاوبوي»، دون تضاريس جغرافية، ولا معرفة اجتماعية، حتى أميركا يومها كانت مختلفة! ربما هو اليوم لا يتذكر هذه الحادثة، ولكنني ما زلت أذكرها، وثمة من يقرع بها بوابة الذاكرة بين الحين والحين، واليوم بوعي كبير، ذهب ودرس في أميركا الهندسة المعمارية، وبقيت أنا مخلصاً لحد بعيد لمكتبة القدس، وصاحبها ذي السمنة المحببة، والذي لا يمكن أن تخطئ العين فيه، أنه كان في يوم من الأيام مدرساً لأولاد غير نجباء، كنت أشتري الكتب وأقرأ من عارض، وقلما كان يتدخل في اختيارات الناس، فقط كان يلمح بعينه الشاري، القارئ، ويكتفي بهز الرأس، حتى أن من كبار زبائنها كان المغفور له الشيخ شخبوط بن سلطان، فكثيراً ما رأيته يبحث ويسأل عن كتاب.. وغداً نكمل