للصحراء لغة تبدو مثل رقرقة الماء، مثل رفرفة الطير، مثل هفهفة الشجر، هي مثل كل ذلك في منطق العفوية، ولم تكن لذرات الرواقية عند زينون سوى نظام السكينة وطمأنينة الوجود وهدأة العقل وكأنه يلملم خطواته باتجاه الفكرة المتوجة بفصاحة المنطق، وحصافة التواصل مع الآخر اللامتناهي، هناك عند الأسئلة المفتوحة إلى آخر الزمان.
في قلب الصحراء، تكمن الحقيقة، وتمتزج الألوان مثل حبات التراب، بل كل شيء في الصحراء ترابي، حتى الأفكار تكون برائحة السليقة من غير مفردات تنكس أعلام المشاعر، من غير سفن تقلب طموحاتها أمواج الحماقة، من غير أمنيات يسخطها الكبت.
في الصحراء كل شيء يزهو بوريقات الفرح والترود، وازدهار المعنى، لا شيء يعرقل الجياد، ولا شيء يعيق رحلة الركاب إلى تلال الاخضرار النبيل، ولا شيء يشد اللجام، لأن الصحراء مسك الأيام وبخور التاريخ الذاهب إلى حتمية الأزدهار، بقدرة الأغصان الفارعة، وذهب الرمال الأبدية.
في الصحراء هناك حيث بدأت الخليقة تشكل لوحتها الفنية، وتصيغ قصيدتها الفذة، فترى الأشياء، في تفاصيلها من غير تدخل ما ليس له معنى، وليس له لون أو وجه، بل كل الوجوه تبدو مثل أهداب الشمس، تغسل ثوبها من عند ضفاف الدلالة العميقة، وتصدح ببوح أصفى من عين غزالة برية، لا ضجيج يكدرها، ولا عجيج يحجبها.
في الصحراء تمضي الخطوات، وكأنها في عمق النهر، وتخرج ويضيئها وميض البراءة، وهي في المسافة ما بين رمش الطير، وجفن الحقيقة وأنت السارد لأحلامِك تحدو ما يجيش في الذاكرة، متأملاً فضاءك بخيلاء الراهب في سكينة القدسين، وعرفانية أوشو العظيم، وشمولية الحياة.
في الصحراء تتجلى الفكرة مثل إلهامات الجلال في بحر الحكمة، وتسطع الكينونة كأنها نبرة القلب في صدرة الأطفال، وهم يهمون لالتقاط الكلمة الأولى في أول العمر، وتكون للحب لغة تتخلق في رحم الكون، وحروفها من سكنات النجوم، ورهبة القمر، وبرهان ما ينفتح على السماوات، والأرض.
أنت على مهد الصحراء صبي في عمر الزهور، لك بريق النجمة، ونثة الغيمة، ونداوة المطر، وأغنيات البلابل وهي ترتل أناشيدها الأزلية على خاصرة غصن، أو عند نهد ثمرة، ولا تكن إلا ما تطلع عليه الأشجار من فتنة في هذا الحفل البهيج، ورقصة (الغيتا) ساعة التسامي.
في الصحراء تنسجم مكونات الحياة مثل الدماء في الجسد، وتتناغم المفاصل الدنيوية في لحظة من خلق جديد تضيع فيه كل المزعجات، وتصبح أنت في الكل، فرداً يولد من جديد ويقول المسيح (إن لم تولدوا من جديد، لن تدخلوا الجنة).