هل هي حقيقة أن ينبثق الشيء من جزئه؟ بالصورة المتجلية في الواقع، تبدو هذه الحقيقة مجرد مجازفة عقلية، والعقل لا يعطيك الصورة كما هي، وإنما كما يراها، وكما يراها لا خارج إطار الحقيقة. فلو قلنا إن القرية أكبر من المدينة، سنرى في الواقع ما يناقض وعينا بالمدينة كحجم وتطور، ولكن لو تأملنا حقيقة ما بعد الواقع سنرى أن المدينة قد جاءت من صلب القرية، كما هو الجنين الذي يولد من صلب قبله، ترائب حوّلته إلى كائن يرى بالعين الواقعية. ولا ريب أن الدولة العظمى لا تعتاش إلا على مخزون الدولة الأصغر، ولولا هذا التناسق لما جاءت الكبرى، ولما أصبحت بهذا الامتداد الكوني.
النهر الكبير أنجبته قطرة الماء، الآتية من غيمة، شفيفاً، فأصبح نهراً يتجاوز حدود القطرات بملايين المرات. فالجزء هو الكل المتخفي في ثوب الكل، فلا يرى الكل إلا من خلال مكونات الجزء وتفرعاته في نسيج الكل. فمن الذرة الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة، نحصل على تصادمات النجوم العملاقة التي تستطيع تفجير أعظم المنجزات الواقعية. ومن كريات الدم الأصغر، يبدو الجسم الضخم لأعظم الكائنات الحية.
المعضلة الكبرى التي يواجهها الإنسان هي كيف يخرج من شرنقة وهم الكل على حساب الجزء. ونحن إذ ننظر إلى المجتمع، نرى أن هذا المكون الكبير خاضع لا محالة لأجزائه الذين هم يشكلون الأفراد، ويصدق هنا قول الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، في أن الإنسان هو راعي الكون، كما يصدق كلام نيتشه في حديثه عن الفرد المنعزل، فهو الذرة التي يأتي منها المجتمع، فإذا نبت هذا الفرد من سجية واعية استطاع أن يكون ضلعاً مستقيماً في جسد المجتمع، فلا يصلح المجتمع إلا بصلاح الفرد، أما أن يكون الفرد حملاً في سرب القطيع، فإن ما ينتج عنه هو مجتمع قابع تحت كومة من قش التخلف. فالأفراد مسؤولون عن طريقة ظروفهم، وهم كذلك عليهم التزام وجودي في بناء الكل، لكونهم أجزاء لها علاقة وطيدة في استيلاد الكل. اليوم تذهب المجتمعات الراقية إلى الكف عن الإدانة الدائمة للكل، والاتجاه إلى تعليق الأمل على (إرادة القوة) لدى الأفراد، فهم عماد المجتمع، فإذا ما توافرت تلك الإرادة في البناء والتكاتف والانسجام، من دون يقين أعمى بالأوهام، فإن التطور مسألة حتمية، ولا مصادفة في النتائج، فإن تعمل بحب نحو الكل، تكن أنت الجزء الأهم الذي ينمو من خلاله الكل.