حين يرحل الأصدقاء بعيداً، أو حين ترحل الذكريات خلف الزمن، تباغتك أحياناً المفكرات القديمة، وتحيرك إمضاءات أرقامهم، وترى في خيالها وجوهاً متعددة، كبر فيها الزمن، أو بعضهم يجترون المعاناة، أو اكتفت منهم الحياة، وللغياب قيمة ذاتية، وللحضور المتباعد، تتعانق فضاءات الحياة المختلفة.. لكن تبقى مفكرة الأرقام القديمة تخط الأسماء خطاً، يعيد سحر الوجوه في تصورها الأول، وبابتسامتهم المتوهجة، وبعلاقتهم الثقافية المختلفة.
في بداية سطورها، تخط مفكرة الأرقام اسماً لصديقة مبدعة، لديها هاتفان، وعنوان بريدي ينم عن كثير من التراسل الثقافي بيننا، وبرغم أننا لم نلتق قط، وبرغم تلك الشذرات والكتابات المتبادلة بيننا ذات صدقية إلا أن وتيرة الزمن جعلت العلاقة تسكن في رحيق الذكرى، يليها بالمفكرة، الصديق والأديب أنور الخطيب، ما زالت تسكننا روح التواصل، وهو يحتفي قبل أيام بإصداره الشعري بعنوان «المغيب الناجي من التأويل».
وتصور المفكرة القديمة عائشة العامري كما لو تصور هدوءها المعتاد، وتصور وليد عكو بالمجمع الثقافي، وتعيد في الذهن بعيداً النشاط الثقافي، وقريباً نشعر بالموعد، بإطلالة حديثة وعملاقة، ومكتبة جديرة أن يتسع لها قلب أبوظبي، وتقترب المفكرة من الشاعر الذي لم ينطفئ شعراً أو بحثاً، وهو الصديق أحمد عبيد، بل تكتمل منظومة الشعر الجميل، وبرغم الغياب الآسِر في النفس، ما زال وجهه ينشد شيئاً ما، إنه الراحل أحمد راشد مسافة من العطاء الثقافي والأدبي.
وتعد هذه المفكرة القديمة برجاً من الإبداع، ولم تحد عن الأديب الجميل برهان شاوي، وكأنها تصور رواياته بطابعها المختلف برؤيته المختلفة.
تلك الأرقام كتبت تارة بالأحمر وتارة بالأسود أو أخرى بالأزرق، وكأنها تجسد معنى آخر لا يفهم دلالاتها، وضمت المفكرة أصدقاء، منهم الناقد هيثم الخواجة والشاعر مصطفى الهبرة، تتباعد الحياة بيننا وربما نلتقي عبر وسائل التواصل المفترضة، بينما يحضر الأديب إبراهيم مبارك بل يقترب كثيراً من الحضور وتبادل الآراء، لكن الذي يليه محمد دحو، والراحلان ناصر جبران وأديب عزام، وكلا الراحلين تقترب ذكرى رحيلهما.
وما زالت المفكرة تتقاطع فيها الألوان، وتكتسي بأسماء جميلة في كتاباتها، كالأدباء ناصر الظاهري، وأسماء الزرعوني، وجمعة اللامي، وشهيرة أحمد، وإقبال الرفاعي، وسلمى الجيوسي، وناصر العبودي، وباسمة يونس، وعبد العزيز المسلم، وعبد الحميد أحمد، إنها ليست مجرد مفكرة أرقام، وإنما هي ذات دلالات تحمل في طياتها الهم الثقافي، وتحمل روح الإبداع والمثابرة الثقافية التي بدأت ونضجت وأثمرت بالعديد من الإصدارات.