الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المكان.. سؤال الفن الأبدي

المكان.. سؤال الفن الأبدي
8 نوفمبر 2018 01:14

عز الدين بوركة

مدخل: يلعب المكان دوراً مهماً في جل الفنون، إن لم نقل كلها، بل إن بعضها لا يمكنه أن يخرج إلى الوجود دون امتلاكه للمكان (الفضاء). فالحيز المكاني في المسرح، على سبيل المثال، أساسي ومهم، إذ لا يمكننا أن نتخيل نصاً مسرحياً من دون أن نتصوّره فوق رقعة المسرح. وقد كانت السيطرة على الفضاء وتمثيلاته وما زالت موضوعاً رائدًا في تاريخ الفن، حيث إن تمثيله شكل تحدياً وهاجساً كبيراً للرسامين ما قبل النهضة.
المكان هو السؤال الأساسي الذي يتقاطع فيه كل الفنانين على مر العصور. فإن كانت «العلوم تفترض المكان، فالفن ينتجه كما يقول جون- بول غاليبير. وقد شكل الفضاء (المكان) تحدياً بصرياً للفنانين، إذ ظلت الدراسات والمحاولات تتكاثر للتعبير عن البعد الثالث (العمق) فوق السند المسطح، وذلك إلى حدود عصر النهضة، حيث تمكن الفنان من اختراق الفضاء بصرياً».

المكان في المسرح
شكل المكان في فن المسرح العمود الفقري لهذا الفن. وعلى خشبة المسرح فنحن نتحدث عن الفضاء أكثر مما نتحدث عن المكان، إذ إن فضاء المسرح هو تعبير هندسي معماري. ومن وجهة النظر، فإن فضاء المسرح هي مساحة معطاة ذات إمكانيات، ولكنها أيضا محاطة بحدود، وكمساحة هندسية، فإن فضاء المسرح جزء من الفضاء اليومي، وتوجد منفصلة وسابقة علي أي عرض. وإن كان النص المسرحي لا يحيا إلا في المكان (المسرح)، إلا أن فضاء النص هو الذي يتحكم في فضاء المسرح، إذ يؤثثه كما يبتغيه، ويقسمه كما يشاء، ويضع الجدران (الوهمية) في الأبعاد التي يبتغيها، إذ إن الممثلين، وفي كل عرض، هم الذين يحددون مساحتهم الخاصة من خلال الكلمة، والحركة، والإشارة، وبمساعدة الأدوات المسرحية والمشهد، والإضاءة، والمؤثرات السمعية، وداخل هذه المساحة، فيصبح للمسرح امتداد حسي.
والمكان في المسرح هو وليد الشعائر الدينية، إذ إن المؤدي الإغريقي للنصوص الأسطورية التي تحكي قصص الآلهة والأبطال الأسطوريين، كان يتوسط دائرة المشاهدين، في إحالة لما تمثله الدائرة ومركزها في التمثلات الميثولوجية. ومنها ورث تنظيمه للمكان وللأوركسترا التي كان فيها الكورس يرقص مع مذبح الكنيسة كمركز له. هذه الأوركسترا تذكرنا بالطبيعة المقدسة للعرض المسرحي: إنها حلقة مقدسة تتحول إلى فضاء مسرحي. وينفصل المكان المسرحي عن المكان المقدس، حيث تؤدى الشعائر، كون أن هذه الأخيرة كانت تؤدى داخل فضاء منغلق ومحصورة في المكان المقدس، بينما أن المكان المسرحي، فهو مفتوح وخارجي بعيداً عن الفضاءات المتعلقة بالشعائري.
من هذا الطابع القدسي خرج المكان المسرحي إلى الوجود، واكتسى المسرح رهبة ونوعاً من القدسية، جعلت منه أباً للفنون جمعاء، بل إنه مسرحها/‏‏ مكانها/‏‏ فضاؤها جميعاً. فجل الفنون قد خرجت من معطف المسرح وخشبته.

المكان في الفنون البصرية
لقد كسر مجموعة من المسرحيين الكبار مفهوم المكان والفضاء في المسرح، واخترقوا جدرانه ونزلوا إلى رقعة الجمهور، حيث بات هذا الأخير جزءاً لا يتجزأ من المسرح المعاصر، في إطار من التفاعل، بل دخلت تقنيات معاصرة إلى الركح، ولم يعد للنص المكتوب وحده السلطة على الحركة في المكان، بل إن الصورة المتحركة في عدة مسرحيات باتت تلعب دوراً أساسياً في خلق أبعاد تنقل المتلقي إلى ما كان محكياً شفوياً فوق الخشبة.
ومن هنا تولدت فنون بصرية جديدة، لها علاقة بالأداء performance والخروج من الاعتيادي واختراق أماكن وفضاءات جديدة. فكان ما يسمى اليوم بالأداء الفني، والذي يختلط فيه الفن التشكيلي وفن الجسد بفن المسرح، إذ إن فن الأداء هو جزء لا يتجزأ من الفن المعاصر، حيث يؤدي فنان أو فنانون حركات بصرية أمام الجمهور. يمكن تقديم العمل بشكل فردي أو في مجموعة، مصحوباً بالإضاءة أو الموسيقى أو العناصر المرئية التي قام بإعدادها الفنان، بمفرده أو بالتعاون مع أشخاص آخرين، وتم إنتاجها في أماكن مختلفة، معارض فنية المتاحف والأماكن «البديلة». ويتعلق الأداء الفني بـ«العابر» والزائل، فهو فن اللحظة والمكان. فيترك آثاره في الخلف، والتي تتعلق في العموم بالصور الفوتوغرافية، أو شرائط مصورة أو شهادات الفنان أو النقاد.. فلا يبقى على قيد الحياة إلا بفضل ذاكرة الشهود. فـ«على الرغم من وجود فكرة الأداء في كلتا الحالتين، إلا أنه يجب علينا التمييز بين الأداء المباشر والأداء غير المباشر، عبر التصوير الفوتوغرافي والفيديو والأفلام والتسجيل الصوتي [...] والتي غالباً ما تكون العمود الفقري للأعمال التي يؤجل فيها الأداء، تقول شانتال بونتبرياند: «من الواضح في هذه الحالة أنها ليست مجرد وثائق وإنما هي عروض حقيقية».
فإن كان المكان في الفن البصري المعاصر قد خرج عن الموضوع والغرض، وقفز عن القماش والجدار... فقد صار جزءاً مهماً من الحركية البصرية، بل لا ينفصل عنها في كونه يفرض نفسه على المؤدي والفنان، ولم يعد المكان مؤطراً بإطار، ومقتصراً على التوهيم والتخييل، بل صارت له حالات وجودية متعددة. ولو أنه كان أحد الإشكالات العويصة للفنانين والرسامين.

من الكهف إلى الوجود
كان مكان الرسم الوحيد المتاح للإنسان البدائي هو جدار الكهف، ولم يكن الفضاء يمثل إلا صوراً (لحيوانات أو حالات الصيد) تتبع الآثار البارزة reliefs على الجدران الخشنة. ولم يوجد بعد ثالث، مجرد صور متساوية الطول والعرض ومسطحة بشكل جانبي.
سننتظر إلى حدود عهد النهضة، وبعد محاولات لرسم العمق في عهود سابقة، إذ تناول فنانو النهضة نظريات أقليدس للفضاء وحاولوا تقديم اقتراحات جديدة للعمق. وستبرز نظريات المنظور perspective وستصير علْما حقيقيا. وستتعدد نظريات المنظور، ومعها ستتعدد تقنيات تمثيل المكان في أبعاده الثلاثية. وإن ظل النحت منذ نشأته يتمتع، على خلاف الرسم الصباغي، بتلك الإمكانية التي قدمت له إمكانية البروز واختراق المكان، إذ إنه يتحلى بالأبعاد الثلاثية بشكل ملموس.
مع حلول القرن التاسع عشر، ظهرت آلة التصوير التي شكلت تحدياً كبيراً للرسامين والفنانين الصباغين، لما امتلكته من إمكانية التقاط المكان بسرعة وبشكل دقيق وبكل أبعاده بما فيها العمق. ما سمح للجميع بفهم المنظور بشكل واضح. وهو ما دفع فنانين حداثيين إلى البحث عن فضائهم الخاص، وتمثلاتهم الذاتية للمكان. فغيّر الوحشيون من ألوان العالم وكثافته، ونزع الانطباعيون من المكان دقته، وتركوا لانطباعاتهم حرية التعبير عن الحيز المكاني. ومع كليمت صار الجسد أسير المساحة ومدمجا مع البعد الصباغي. ومثل موني كاتدرائية رووين مع إضاءة مختلفة. الفضاء التصويري في خدمة الإحساس الضوئي والمضيء. اللوحات قابلة للقراءة على مسافة معينة، في الواقع، ينظر إليها عن كثب، فإن مفاتيح الدهان تزعج المساحة الموضحة. ومثل بول غوغان المساحة عن طريق وضع علامات على المستويات البصرية les plans المختلفة. يمكننا أن نرى المستوى الأول يتحرر من اللوحة، من ثم سيلغي ماتيس من تأثير العمق من أجل سطوة اللون الأحمر.
لكن الفضاء سيتخذ أبعاداً متنوعة مغايرة مع مطلع القرن العشرين. وخاصة مع ظهور اتجاهات فنية وُصفت بالمتمردة، فقد اختفت أبعاد المكان في الفن التجريدي ومنح للون كامل الحرية في التعبير عن نفسه، بالإضافة للأشكال الهندسية والخطوط الحركية وانسيابية الألوان وتداخلها فيما بينها، سيقترح ماليفيتش سنة 1918، لوحته «مربع أبيض على خلفية بيضاء»، حيث سيظهر التصوير التجريدي في اكتماله البصري، فهذه اللوحة جعلت من اللون الأحادي (المونوكروم) حيزاً مكانياً بحتاً. ولأن للعمق سلطته وسطوته البصريين، لم يتناس الفنان التجريدي التعبير عنه، للتعبير عن المكان في اللوحة، فعمد لوسيو فونتانان في أعماله المعنونة بـ «مفاهيم الفضاء» إلى تمزيق القماش بمشراط، وإحدث فيه «شقوقا» متوازية، ليخلق نوعاً من العمق في بدن اللوحة المونوكرومية، إنه «عمق بارتياح حقيقي» كما يصفه.
أما التكعيبية، فقد حررت نفسها من العلاقة مع النموذج الخارجي (المكان)، حيث تم تحويل التمثيل التصويري للفضاء رأسًا على عقب من خلال التجربة التكعيبية، هذه الحركة الفنية التي اقترحت، بين عامي 1910 و1930، لتمثيل الأشياء في عناصر هندسية بسيطة، إذ يقوم الفنان بتحليل أشكال الموضوع لإعادة إنتاجه ببساطة بأشكال هندسية، بدلاً من التركيز على اللون، وتركز التكعيبية التحليلية – خاصة ــ على الأشكال الهندسية مثل الأسطوانة والمخروط لتمثيل العالم الطبيعي. خلال هذه الحركة، تشترك الأعمال التي أنتجها بابلو بيكاسو وجورج براك في التشابه الأسلوبي. أما التكعيبية الاختزالية، والتي عرفت النور ما بين 1912 و1919، وخاصة بعد التحاق خوان غريس بالتيار التكعيبي، فقد جعلت من الاختزال الصباغي وتقنية الكولاج تعبيراً عن العمق الذي يعبر عن المكان المصوّر.. وقد عرفت المساحات الجانبية في بعض النواحي انفجارا من حيث مساحة التمثيل.

المكان والفن المعاصر
سبق وأشرنا لما يلعبه المكان من دور في الفن الأدائي، الذي يعتبر أحد تيارات الفن المعاصر. هذا الأخير الذي تولد عن الرؤية الثورية لمنتصف القرن الماضي، وما نتج عنها من تيارات ما بعد حداثية ورؤى فلسفية متعلقة بها.
لقد غدا المكان جزءاً من العمل الفني عينه، وبات عنصراً تشكيلياً، فالأثر الفني غادر اللوحة، وولج الفضاء الخارجي. ففن الأرض (لاند آرت) سيباشر الطبيعة ويُشكّلها، فاستعان بعناصر المكان (من خشب وأشجار وحجارة وغيرها...) لتشكيل الأعمال الفنية التي تكون في الغالب في مكان خارجي بعيداً عن دار العرض، ولا يوثقها سوى الصور الفوتوغرافية، والتي تُعرض بديلاً عن العمل الأصلي، هذا الأخير الذي يتلاشى ولا يبقى منه سوى الصور أو الأشرطة الفيلمية التي تخلّده.
وقد غير الفن المعاصر مفاهيم العرض، ولم يعد الفنان يشكّل منحوتاته في ورشته وينقلها بحذر إلى دار العرض، إذ ابتكر الفنانون المعاصرون ما اسموه بالتنصيبات الفنية les installations، والتي تخلت عن السند المعين لحمل المنحوتة، ومعه تخلت عن قدسية رفع المنحوتة عن الأرض. فالتنصيبة جزء من مكان العرض، بل في أحايين كثيرة هي وليدته، إذ مجموعة كبرى من التنصيبات تتخذ لها أبعاداً متغيرة حسب مكان العرض. هذا الأخير الذي بات في خدمة المتفرج لإقامة علاقة مع العمل الفني نفسه. ولم يعد الفنان يختار خاماته النبيلة لينحتها، أو يصنع منها أعماله الفنية، بل صار يلتقط خاماته وعناصر عمله الفني من المكان وما ينتشر فيه من مخلفات وبقايا ومتلاشيات... لم يعد الفنان ينشئ الفضاء، بل بات هذا الأخير عنصراً أساسياً في الأثر. وباتت الأعمال الفنية قابلة للاختراق، كما هو الحال مع أعمال الفنان المعاصر Jesus Rafaël Soto.
ومع ولوج العالم إلى الزمن الرقمي وعصر الأصبع الصغير، صار الفضاء الرقمي عنصراً من عناصر العمل الفني. فتولد سند جديد للعرض ولإنشاء العمل الفني، ومعه تم إنشاء حقل بصري جديد يعتمد على منصة الحاسوب للعرض وعلى برامجه المتقدمة لإنشاء التفاعلات والتداخلات والأشكال الفنية.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©