الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الفنانون الغربيون غدروا به في «مقصورات الحريم».. تدجين الشرق

الفنانون الغربيون غدروا به في «مقصورات الحريم».. تدجين الشرق
8 نوفمبر 2018 01:14

كريستين بلتر 

ترجمة : أحمد عثمان

في كتابها «الحريم والغرب»، بينت فاطمة المرنيسي كيف أن الرسامين الغربيين، أمثال فان لو، بوشير أو إنجر، قاموا بتأويل صورة امرأة الحريم، بعد ترجمة «ألف ليلة وليلة» من قبل أنطون غالان عام 1704. هذه الصورة الحسية كلياً من الممكن أن تكشف شيئاً من الغدر لأنه «بالتوجه إلى الغرب، حرمت شهرزاد من ذكائها» (1). إذا كانت هذه الملاحظة صحيحة وجذابة على الوجه الأكمل، فإننا نستطيع مع ذلك أن نفسر التأويل التصويري للغرب من خلال أهمية موتيفة العري في التصوير الذي يشهد أكثر من أي شيء آخر على مقدرة الفنان. ولقد كان التوجه من العري الميثولوجي إلى العري الشرقي سهلاً لدى فناني القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إذ كان يقصي الروتين، ويبيح اللوازم الغرائبية التي تطيب للأعين. يتمثل مسعاي هنا، في توضيح كيف أن الشرق في مجمله، وليس شرق الحريم فقط، تم «تدجينه»، أو خيانته من خلال فناني الغرب، بدعوى الرهانات الجمالية أو الثقافية بصورة دقيقة، التي، فضلاً عن الرحلات، أوحت بتمثلاتهم.

ظهرت حجة الاستشراق الذي تطور في فرنسا بالأخص، بدءاً من ثلاثينيات القرن التاسع حتى نهاية القرن العشرين، جلية في الرحلات، والانتقال، والترجمة الحذرة والجادة للغير . بالنظر – على الأقل من خلال المقصد – إلى الملابس التي اعتمدها الفنانون كثيراً، مثل دوزات، في انشغالهم بالإشباع الشرقي. فمن «رأيت» في بلاغة حكاية الرحلة، يتبدى المعادل الفني لإحدى هذه الصياغات التي يمكن تسميتها «عامل الاعتقاد» (2).
بمناسبة عرض اللوحات الاستشراقية في صالون باريس، انطلق النقد كما في الغالب إلى الحكم على نوعيتها بناء على معايير حقيقية (المقصود هنا هو المدرسة الحقيقية، وهي حركة فنية ظهرت في إيطاليا، في أواخر القرن التاسع عشر، وامتد تأثيرها الى الأدب والأوبرا، تدعو الى تمثيل الواقعة بكافة الوسائل الممكنة، وهي تعتبر وريثة النزعة الطبيعية الفرنسية). ومع عرض لوحة «ميدان الأزبكية في القاهرة» لبروسبير ماريلها، عام 1834، كتب تيوفيل جوتييه: «لوحته تتبدى لنا قاصرة بسبب ثقل وفجاجة الأسلوب. ربما يكون هذا صائباً، ولكنه لا يفسر أي مظهر: من اللازم الذهاب الى مصر لكي يكون المرء حكماً كفؤاً. لنذهب» (3). في الواقع، لم يفت جوتييه أن يتحقق من دقة الألوان، خلال رحلته المتأخرة الى مصر، بمناسبة افتتاح قناة السويس، عام 1869. هذه المعايير الحقيقية، التي ترسخت خلال العصر الرومانسي، كثرت نتيجة تطور الحساسية «الاثنوغرافية» نحو ستينيات القرن التاسع عشر، مع تأثير الواقعية والفوتوغرافية، الذي تجلى واضحا لدى جيروم.
ومع ذلك، فهذه «القراءة» للشرق الأصيل، المقدر لها تزيين المنازل البورجوازية، تستمر في الممارسة عبر المرشحات الثقافية التي أتمنى استدعاءها هنا.

المصادر التصويرية لقراءة الشرق
إذا كان استلهام الفن الشرقي غير غائب عن التكوينات «الاستشراقية» – نفكر على وجه الخصوص في اهتمام إنجر بالمنمنمات الفارسية، واهتمام جوستاف مورو بالمنمنمات الهندية – فإنه على أي حال يثري الذكريات الغربية. كما يبين أهمية النسخ، والتقليد الكلاسيكي في التعليم بمدارس الفنون الجميلة خلال القرن التاسع عشر، خاصة، أننا ننظر الى الشرق على ضوء أساتذة فسروه من قبل.

فينيسيا
يفسر انفتاح فينيسيا على الشرق وتعظيم فنانيها للألوان – قيمة مجَّدتها المدرسة الرومانسية الشابة – القرابة القائمة لكثير من الأعمال مع الأعمال «الفينيسية»، وخصوصاً مع أعمال الرسام الإيطالي بول كالياري (1528-1588) الذي اشتهر باسم فيرونيز نسبة الى مدينة فيرونا الإيطالية. وخلال رحلته الى المغرب، لم يفت ديلاكروا الاشتراك في هذا المهرجان، مهرجان الأضواء، كما جرى في مكناس وملاحظته أن «السماء كثيرة السحاب الخفيفة واللازوردية على طريقة بول فيرونيز» (4). بهذه الكلمات، أطرى جوتييه لوحة «نساء الجزائر» في الصالون، عام 1834، وذلك «بسبب الأهمية الكبيرة للتفاصيل الدقيقة، الوضوح الرقيق للآلئ، اللمعان الفضي والشحوب الحار للأجساد، نجد أن الأناقة ونزعة التنسيق لا يقعان في مرتبة أدنى عن أي لوحة منيرة من لوحات بول فيرونيز» (5).
بعد ذاك بفترة، سطر سينياك أيضا هذه القرابة في مقاله «من أوجين ديلاكروا الى الانطباعية الجديدة» (1898)، اذ أن فيرونيز «كان هو الآخر مطلعاً على أسرار وسحر اللون الشرقي، على وجه الأرجح من خلال الآسيويين والأفارقة الذين كانوا يجلبون الى فينيسيا وقتذاك فنهم وصناعتهم». يشجع تاريخ فينيسيا أيضاً هذه الاقتباسات، كما في اللوحة التي طلبها لوي- فيليب من ديلاكروا لأجل قاعات العرض التاريخية بقصر فرساي، وهي لوحة «الاستيلاء على القسطنطينية من قبل الصليبيين 1204». في هذه المرحلة من الحرب الصليبية الرابعة (1202-1204)، التي حرض البابا اينوقنتيوس الثالث (الشهير، في أوروبا، بالبابا البريء) عليها لتحرير القدس، ونجحت في الاستيلاء على القسطنطينية، هيمن تأثير فيرونيز، كما ذكر نقاد العصر، على هذا التكوين الجميل.

رامبراندت
على النقيض، جغرافياً، كان رامبراندت مرشداً تصويرياً آخر. نعرف انجذابه العميق الى الإيحاءات الكتابية الباذخة، العنيفة أحياناً، حيث تتجلى اللوازم الأسطورية. ويعكس الذوق العام للقرن التاسع عشر الفرنسي إزاء التصوير الهولندي نزعة المستشرقين لترجمة إدراكهم للبلاد التي زاروها بطريقة «رامبراندتيَّة». ولقد شدد دوكامب، أحد أوائل رواد هذا النوع، في أعماله على «بذخ رامبراندت وابتذاله» على حد تعبير بودلير. وكتب جوستاف جييوميه، الذي زار ورش الخزف في الجنوب الجزائري: «خطوتان خطوتهما وألفيت نفسي فجأة غاطساً في عتمة دامسة (...). تتبدى التفاصيل في النور الخفيف، تنتعش تدريجياً مع سحر رامبراندت. حتى خافية الظلال، حتى الذهب في لمعانه» (8). وفي تقديرنا أن التصوير الاستشراقي اجتاز، ولو متأخرا، ذوق المنير- المعتم، والتعارضات التي تبين جليا الأنساق اللونية المعتمة. ربما كانت هذه النزعة مؤكدة من خلال الفكرة، الغامضة في غالب الأحايين، بحيث تعرض الرحلة الى الشرق غوصاً في الماضي الذي يثير الإعجاب، كما جرى مع بيار لوتي في لوحته «في المغرب» (1890)، الذي رآه غامضا: «أيها المغرب الغامض، ابق كما كنت، عملاقاً، مستتراً، عصياً على الأشياء الجديدة، أدر ظهرك لأوروبا وتجمد في الماضي» (9).


المصادر المعاصرة
ومع ذلك، الماضي ليس العامل الوحيد لتشجيع الاقتباسات. وكما نجد «تناصاً» لدى الكتاب في حكايات الرحلات، هناك ظاهرة مماثلة تنتج في التصوير. في غالب الأحيان، كانت أعمال دوكامب، الرائد، مصدراً للإلهام الذي نجده أيضاً لدى ديلاكروا في جدران خلفية لوحته «مختلجو طنجة»، في عام 1837، أو لدى تورنومين - مثلاً - في لوحة «السكان الأتراك قرب آداليا». ثم إن ديلاكروا، نفسه، كان ملهما (بفتح الهاء) وملهما (بكسر الهاء)، إذ أن الرؤى العديدة للنساء المجتمعات في منازلهن، التي حققها المستشرقون، تَدين بقوة الى لوحة «نساء الجزائر»، كما تشهد لوحات الفنانين: ليون بلي، أوجين فرومنتان أو حتى كورو (جزائرية راقدة على العشب). مع أن لوحة «العرس اليهودي في المغرب» أنتجت شيئاً من التنظيم، كما تجلى في لوحة «سوق الأبْسطة في القاهرة» للفنان لوي موشو. على وجه العموم، نذكر أن في استشراق القرن التاسع عشر نزعة تشريف مشهد النوع بمنحه مرجعاً ساحراً: بالأخص لدى فرومنتان، الذي أضفى على مشاهده مظهر اللوحات التاريخية، باستلهام مثال وليس حصرا، «طوف ميدوزا» للفنان جيريكو في لوحة «في بلاد العطش».

في مصادر التاريخ الغربي
هذا البحث الشغوف عن «المعنى»، رغم نزق الغرائبية الجلي، وجد تفتحه في التأويل التاريخي للشرق، المدرَك بأكثر من طريقة، غير أن التصوير الفرنسي يمنحنا، كما بدا، ثلاثة مظاهر على الأقل.

الآثار الإغريقية -الرومانية
مكنت إعادة اكتشاف البحر المتوسط من قبل أوروبا، خلال القرن التاسع عشر، بوساطة حملة بونابرت على مصر، من «إعادة اكتشاف» ماضيه، هذا الماضي الذي قامت ذكرى الآثار الإغريقية -الرومانية بدور في نسيان الهيمنة العثمانية عليه. أصبحت المقابلة بين السكان المعاصرين لشمال أفريقيا وظلال التماثيل القديمة «رابطا مشتركا» في رحلة الفنان. كان ديلاكروا أول وأهم مؤوِّل، إذ رأى هذه الشخصيات «في أردية بيضاء مثل شيوخ روما وأعياد أثينا». وأبدى رأيه: «روما ليست في روما» بما أن «الإغريق والرومان هنا، في مرمى نظر(ه)». في الجزائر، وقتما كانت ذكرى الرومان موضوع البحث الآركيولوجي ونموذج القوة الكولونيالية، بدءاً من عام 1830، نجدها في كل مكان، كما ذكر شارل نودييه في «يوميات غزو الأبواب الحديدية في عام 1844 (إشارة إلى الحملة الفرنسية، بقيادة دوق دورليان في عام 1839، التي لم تحترم اتفاقية تافنه المبرمة بين الفرنسيين والأمير عبد القادر): «تركت الهيمنة الرومانية هيكلها العظمي راقدا على هذا البلد الرحب». لدى شاسريو، تختلط انطباعات جيش أفريقيا خلال وجوده بالجزائر في عام 1846 مع ذكريات عمود تراجان في روما.. و«الفرسان العرب»، كما في اللوحة الموجودة بليون (إشارة إلى لوحته المسماة «الفرسان العرب عند نبع قسنطينة»)، لهم هيئة القدماء.

الكتاب المقدس: نحو شفقة حديثة
من دون أدنى شك، كان الرجوع إلى مصادر المسيحية مكوناً آخر لهذا الاستشراق الذي يواجه الذكريات الكتابية، حيث نقرأ الحاضر من خلاله. هكذا، مع أعمال حفر قناة السويس (التي تم افتتاحها في عام 1869)، قارن نارسيس برشير، رسام مكلف برسم هذه الأعمال، فردينان دو ليسبس بموسى جديد: «كان لضربة الصخرة وقعها، بلغت مياه البحر المتوسط العتبة، وخلال شهر سوف تستقر المياه العذبة في بحيرة التمساح: سوف يكون العام الجديد خصباً بالمعجزات» (10). موضوعة «ضربة الصخر» من قبل موسى كانت متماشية مع الصرعة وقتذاك لأنها كانت موضوع الجائزة الكبرى في روما 1836، التي فاز بها دومينيك بابيتي. اقترنت المصادر الكتابية بورع الإسلام لأجل تجديد التصوير الديني. يقول هوراس فرنيه، في عام 1848 أمام أكاديمية الفنون الجميلة: «هناك علاقات بين أزياء العبرانيين القدماء وأزياء العرب الحاليين». وقد مثلت العديد من لوحات فرنيه، مثل «يهودا والسامرة» هذا المسعى. نلاحظ، بشكل عام، إرادة النزعة التوفيقية في لوحات تبين أمثلة عدة: لوحة «امرأة ناضجة ترضع طفلها» لشاسريو (1850)، تكوين ليون بلوم جيروم لوحة «حجاج متجهون الى مكة» (1860)، تمثل «الهروب من مصر» (إشارة إلى الخروج من مصر، زمن فرعون)، على أمل أن تعبر عن فكرة دينية عالمية. هكذا، توطدت صلات لافتة للنظر بين مشاهد تتبدى كأنها بعيدة: الفلاحات في مقابر أزواجهن، بالقاهرة، قريبات في الشبه من الأرامل البروتونيات (نسبة إلى إقليم بروتون الفرنسي) اللائي صورهن شارل كوتيه.


هوامش

(*) جزء من مداخلة طويلة ألقيت تحت عنوان «شرق التصوير: الثقافة والتمثل» في مركز الثقافة المعاصرة، برشلونة 2003، في إطار حلقة «شهرزاد الجديدة. المرأة والمشاركة في الدول المتوسطية»، حول معرض نظمته فاطمة المرنيسي، «فنتازيا الحريم. رؤى أوروبية وإسلامية حول الجمال والحب»، والعنوان بالفرنسية: -Les Orients de la peinture: culture et représentation.
(1) MERNISSI، Fatema، Le harem et l’Occident، p. 72.
(2) François Hartog.
(3) Avril 1834، La France industrielle.
(4) DELACROIX، Eugène، « Meknès، 24 mars 1832 »، Journal، p. 107.
(5) GAUTIER، Théophile، « Variétés. Exposition du Louvre »، La Presse، 22 mars 1838، cité par Moulinat، p. 275.
(8) GUILLAUMET، Tableaux algériens، 1888، p. 233.
(9) LOTI، Pierre، Au Maroc، 1999، p. 261.
(10) BERCHERE، Narcisse، Le désert de Suez. Cinq mois dans l’isthme، Paris 1863، p. 99.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©