الوسط الثقافي هو المائدة التي يلتفّ حولها المثقفون. يتداولون، يتناقشون، يخططون، يبدعون، وفي حالات كثيرة يتآمرون على القيم الهشّة لمجتمع متآكل ليداووه وينهضوه ويزرعوا فيه أشجار أحلامهم، يخلقون عالماً خاصاً بهم تعمّه المحبة ويحفّه الإيمان المطلق بقيمة الإنسان المتمثلة في جوهره، وشغف مستحكم بالرغبة في زرع بذور النور في الطرقات المعتمة، وانتصار غير مهادن لقيمة الحرية. مائدة الوسط هذه التي تضم المبدعين من مختلف المشارب قد يتسلل إليها من لا يمتّ لها بصلة، يحصل أن يضمهم الوسط أو يلفظهم حسب الظروف المواتية والمعايير المختلفة وتنوع زوايا الرؤية، وحول هذه المائدة في هذا الوسط تتشكل علاقات إنسانية على أعمق مستوى، فالأعضاء هنا ليسوا قرابة دم، ليس من وصالهم بدّ، أو زملاء عمل ليس من محاباتهم مفرّ مخافةً وتوجساً، إنهم في الأصل اختيار روح، والروح حين تختار فهي تنحاز للأجمل فيك، لا يهمها أصلك وفصلك وأمك وأبيك وعشيرتك التي تؤويك، ولا تحكم عليك من البيئة التي خرجت منها، وكيف كنت في صباك وشبابك تعافر الحياة وتعافرك، وماذا فعلت بحالك وما الذي فعله بك الحال، لا تحكم عليك من مظهرك وإن بدا أشعثاً أغبر، ولا يهمها لمعان حذائك وطول السيجار بين أصابعك وحجم محفظتك ومفاتيح سيارتك، الروح لا تأبه لما تمتلك وما لا تمتلك، بل تذهب مباشرة إلى قلبك فتراك ملكاً متوجاً وإن أقبلت عليها حافياً. إنها تراك كما أنت في جوهرك وتحتضنك وتتقبلك على علاّت ظاهرك ونقائص مظهرك، وتجعلك لها شقيقاً وللقلب رفيقاً ولا تنتظر منك شيئاً على مدى الزمن سوى المحبة ومواصلة الإمساك بشعلة النور لآخر النفق. ولكن يحصل أن تنقلب هذه الطاولة أحياناً، لأن الأرواح لا زالت -على شفافيتها- لبشر، والبشر خطاؤون، وإذا انقلبت هذه الطاولة أبادت وأحرقت وأماتت وأهلكت ولم ترحم وكأنها لم تكن بالأمس حصنا حصين، ودرعا مكين، ومأوى الروح الأمين. تتحول الطاولة لدائرة تدور.. فتخرج الملفات القديمة وما كان بالأمس مصدراً للضحك والابتهاج ودهشة إبداع، يصير فجأة سبباً للطعن والتشهير، لتصبح الملفات المختبئة، والتي ما كانت لتكون لولا الاطمئنان، سلاح الكل ضد الكل. وكأن الترصّد كان دوماً شيمة خفية متفق عليها بصمت. وتبقى مفردات كالصفح والمغفرة والتسامح والتفهم، جميلة مؤثرة على الورق، لكن حول الطاولة تصير مجرد أحرف جوفاء بلا قيمة. فالكل قد غضب على من ارتكب الخطأ أو الخطيئة، وفي الغضب ينقلب السحر على الساحر، والطاولة على الجميع. لذلك كان من المهم دوماً أن تزرع شجرة الحلم بعيداً عن الطاولة.