لا تتحرك الطائرة أسرع من حركة النبض.. لا تسير أسرع من جريان الروح نحو منبعها. لا تحلق أعلى من صعودها في فضاء الذاكرة المكتظة بالصور والأحداث واللغط والتناقضات والبكاء والضحك والأحزان والمسرات، بالبيوت والطرقات والجيران وساحات اللعب وأصدقاء الطفولة والصبا.. الذاكرة، هذا النهر الهائل الذي يحتوي وجودنا كله، ما نعيه وما لا نعيه، منذ الخطوات الأولى حتى الخطوة النهائية. هذا النهر الذي يصب ماءه الخفي في مسيرة العمر فيصوغ شخوصنا ورؤانا ومواقفنا، سلوكنا وعقائدنا، ما نؤمن به وما نرفض. النهر الذي نرى ماءه صافياً في ظاهره، وفي خفائه يكمن الخصب والعقم، الوحل وصلصال الخلق، الميلاد والفناء، الموت والانبعاث. الذاكرة، خزائن الطفولة التي تجعلنا متناقضين حد الاضطراب، ومختلفين حد الاغتراب. نحو جزيرة سترة. الشوارع ذاتها تلك التي تشبه الشرايين في جسد الذاكرة. بيتنا القديم لم يعد موجوداً ولم يعد القلب يرف لمشهد الباب إذ نلمحه من البعيد. الساحة أمام البيت لم تعد ذاتها إذ قام في إحدى زواياها بيت على طراز حديث، لكن الشارع الذي كنت أطرقه بأقدام الصبا والشباب متنقلة بين المدرسة والوظيفة.. تهبط الطائرة بينما تصعد الذاكرة سلالم الزمن عائدة نحو أرض الدهشة الأولى والفتنة الأولى.الأرض التي تفتحت فيها مدارك الروح والوعي لأول مرة. من باب الطائرة نمر عبر نفق يقودنا إلى حيث يدمغ حضورنا بالأختام ذاتها التي تدمغنا منذ الصرخة الأولى حتى الكفن. أختام تؤكد الحضور أو تلغيه في الغياب. من أنت دون ختم يؤكد من أنت؟ دون بطاقة موشومة بختم مذيل بتوقيع امرئ لا يعرفك ولم يعجن خبزك، ولم يسحب الغطاء على بردك، ولم تتشبث أصابعك الطرية بحكمته ليقود خطاك على مدارج الحياة. وله، مع ذلك، الحق في أن يقر بوجودك أو يلغيه، على أرض قد تكون هي مهدك وصلصال روحك، وهواء سرى في خلايا دمك، وهوى توغل في كيانك كله. ختم كأنك لولا الختم لا أنت أنت ولا التراب الذي نبت من خصبه هو التراب! عجيب هذا النفق القصير الطويل الذي يقودك إلى الضلال، وإلى الظلال. وحين تبدو خطواتك الوالهة خفيفة الوطء في نشوة العودة، ينخ على كتفيك ثقل الجبال، وحين تبدو قدماك تسيران للأمام فإنهما في الآن ذاته تسيران في أروقة الذاكرة للوراء، تمران بالطرقات والحقول، بالعتمة والضوء الذي ينطفئ فجأة بدمغة الختم البارد!... يتبع