قبل ست سنوات، كان أطفال سوريا يحدقون في الأفق، وهم يحملون حقائبهم المدرسية وفي الاستراحات بين الحصص الدراسية، كان هؤلاء الصغار يتبادلون الأحاديث، وكل صغير يفتح عينيه اللؤلؤتين، وينظر إلى صاحبه قائلاً، سوف أغدو طبيباً، أعالج فيه أبناء وطني وأشفيهم من الأمراض، ويرد الآخر، وأنا أحب الهندسة لأنني أفكر في تشييد الأبنية الشاهقة، لتبدو شوارع بلادي من أجمل الشوارع في المدن، ويقول ثالث، وأنا أود أن أصبح محللاً نفسياً، لأطارد الأمراض النفسية التي تعصف بالمجتمعات، وقبل أن يبدأ الرابع في التعبير عن تطلعاته المستقبلية، فإذا به يرى غيمة داكنة، تخيم على الأرض، وتبعث رائحة نتنة تخنق الأنفاس. اليوم، بعد السنوات الست العجاف، ضاع الطبيب، ومات المهندس، وأصيب بالجنون ذلك الصغير الذي تمنى أن يصبح محللاً نفسياً، وآمال شعب بأكمله أصبحت مثل رماد سوريا، بعدما اختلطت الدماء بالدموع، وصار البلد الذي كان سوريا ساحة للاقتتال الطائفي والحروب بالوكالة، كان الطفل الثالث عبقرياً، فذاً، لأنه تنبأ بإحلال بلده وانفراط العقد الاجتماعي، وضياع البوصلة وانبعاث إشعاع حراري قادم من كل الجهات، ولكن الذي ينفخ الكير هو نظام استبد واستعبد، وبدد وجرد، وسدد الخطا باتجاه المجهول. اليوم لا نستطيع أن نبكي على اللبن المسكوب، فذاك الطفل الصغير كان على حق حينما تنبأ بالمأساة، وتمنى أن يصبح طبيباً نفسياً لأنه بفطرته وعفويته وشفافيته فهم مكمن الداء، وعرف الذي يهيمن على المشاعر الجمعية، فهذه الحروب لم تأتِ من بعث، بل هي نتيجة لرواسب سكنت وتمكنت من العقول واستوطنت القلوب وأصبح الإنسان متضخماً إلى درجة الانتفاخ مما يصعب حل المعضلة إلا باجتثاث المرض، ولكن من أين سيأتي الحل؟ فذاك الصغير أصيب بالجنون قبل أن يحقق أمنيته، لأن الكامن في اللاشعور الجمعي كان أسرع من عمره، فقضى على الحلول وانقضت الحلول وأصبح الوطن مستشفى للأمراض النفسية، والمعالجون فقدوا أدواتهم العلاجية مع الضمير في مكان ما من الأكاذيب التي طالت مخالبها، واتسخت أنيابها، وأصبح قتل الإنسان السوري الحل الأوفر حظاً من أي حلول، فلا جنيف ولا أستانا ولا حتى المريخ تستطيع أن تحل الأزمة، لأن المأزق كبير، والحروق تجاوزت حدود اللحم لتصل إلى العظم، والكل يقتل القتيل ويمشي في جنازته، ولم يخسر أحد سوى هذا الشعب المغلوب على أمره الذي وقع بين المطرقة والسندان، وأصبح لا يشكو إلا إلى الله سبحانه وتعالى.