«في طريق موحش شديد الظلمة، لا يظهر فيه سوى ظلال نهايات أفرع رفيعة لشجر تغوَّل بوحشة، بالكاد تنعكس بسبب اكتمال القمر البعيد. أخذت أتحسس طريقي بصعوبة بين جذوع ضخمة وقد امتلأ رأسي بوجوه لا ملامح لها ولكني أعرفها جيداً...».
هذا المقطع من أول عمل كتابي لي، لم أكن قد بلغت الخامسة عشرة من عمري بعد. أتذكر تماماً ذلك الكشكول الأسود الذي امتلأت صفحاته بوصف هذا الطريق المخيف؛ والحقيقة أنني تورطت فعلاً بهذه الكتابة التي لم أكملها أبداً، فقد غرقت في وصف الطريق اللانهائي؛ وعلى ما يبدو أنها ورطة متعمدة كوني كنت مستمتعة بحالة القلق والخوف التي تملكتني وبضربات قلبي المتسارعة وباندفاع قلمي نحو هذه الكتابة المرعبة.
الآن وبعد كل هذا العمر، أتذكر تلك الكتابة وأحاول تفسير ذلك النهم الشديد في قراءة حكايات الجن والعفاريت والقصص البوليسية وكل ما هو غرائبي وغامض وغير مألوف، ومن ثم محاولة محاكاة ذلك وكتابة ما يشبهه! والحقيقة أني استرجعت حالتي تلك -منذ يومين- وأنا أجول بنظري أمام إحدى دور النشر الخليجية المعروفة بإصداراتها المعنية بالجانب الغرائبي في معرض الشارقة الدولي للكتاب، وقد غصت واجهة الدار بالفتيات والفتيان من الذين اصطفوا أمام صاحب الدار يطلبون توقيعه على ما قرروا شراءه من مؤلفاته الخاصة؟ وقفت سعيدة بهذا الإقبال، ولسان حالي يستدعي وجوه أولئك المتشدقين بعدم اهتمام هذا الجيل بالقراءة. أين هم من هذا الشغف وذلك التقدير للكتاب وصاحبه!
حسناً.. أعلم تماماً تلك الإجابة الوحيدة والجاهزة لديهم باستمرار: إن قراءتهم لا فائدة منها، وكتاباتهم فارغة لا جدوى من ورائها.
أتساءل: لو قرر والدي في تلك الفترة السابقة من عمري التعامل معي بهذا المفهوم -المتشدق- ولم يُمَكِنّي من شراء تلك الكتب «عديمة الفائدة» ومنعني من الاستمرار في تلك الكتابات «الفارغة»، هل كنت سأستمر في حبي للقراءة؟! الإجابة الوحيدة التي أعرفها، أن القراءة أنقذتني من ذلك الطريق الطويل المظلم والمخيف الذي كنت سأسير فيه بقية حياتي. دعوهم يقرأون ما يشاءون ويكتبون ما يريدون، دعوهم يستدلون على بؤر الضوء الخاصة بهم بطريقتهم، فطرقنا المظلمة لا تتشابه، وكذلك مصابيحنا.