يقول رجلٌ خرج للضوء للتو: أتعبني النظر إلى مفترق الطريق. وترمدت عيناي وأنا أبحث عن الخط الفاصل بين ثقبين أسودين لعل البياض يولدُ من احتكاكهما. خرجتُ من المتاهة منهكاً وظننت الحرية بانتظاري، لكن الفراغ كان أكبر من أسئلتي والأرض أوسع من خطاي. إلى أين أمضي الآن؟ ومن ورائي رأيت جبل الذكريات ينهار سريعاً مثل كومة قش تحترق. وهنا على مركز الدائرة، حيث أقف بحياتي القصيرة وبرجلين طويلتين، تتسع تحت قدميّ حفرة الشك، وأرى أصدقاء الكلام ينأى بعضهم في غمام نسيان، وتتلاشى ظلالهم في الورق الذي أهملته، ويذوب ما يتبقى من ضحكاتهم في وحشة الابتعاد. صديقي الأدبي، بعد أن خضنا في تفاسير الوهم، صار نجماً ساطعاً في مهرجانات العتمة وتغير لسانه زبداً في المديح. وصديقي الموسيقي الذي ربط وتر العود بين جبلين ومشى عليه نحو من يحبها، قيل إن النسور المصابة بالصمم دفعته إلى سقوطه الأخير. وصديقي المغموس في الألوان مات على سرير أبيض ولم يعرف الأطباء بعد رحيله من الذي كان يخربش الجدران ويطلق عواء الخوف في ممراتهم. وأنا لن أدوّن ما كان سراً في جلساتنا العلنية، لكني أبوحُ بالضجر الذي أصاب صديقي الذئب حتى اضمحلّت مخالب روحه، وما عاد يقوى على صيد غزال. ولو أتمادى قليلاً لقلتُ عن صديقي الراقص إنه سقط في الدائرة مبكراً قبل انتهاء العرس، وتسرّب النقرسُ إلى قدميه، وأرداه جليساً ووحيداً في حلبة الخوف. صديقي الذي من شدّة لطفه سميته: الوحش، كان يراقب الأشياء وهي تمرُّ ويضحك من تلاشي معانيها، إلى أن سافر يوماً على ظهر موجة كان يستحمُّ بها، واستأنس الغابات البعيدة. وصديقي الذي قال: لا لزوم لي ونأى برأسه إلى جبل العزلة، عاد أشدُّ شوقاً ليشدني بحبل جمر، ويشعل في جفاف حشاشتي رغبة الحياة. سأذكر أيضاً صديقي الذي قرر يوماً أن يعتني بالذباب، فهاجمته جيوش نمل خرجت من قصائده، وصارت كائنات جميلة في اللوحات. وأيضاً الصديق الذي تحدّث عن كمال الجحيم، وراح يعلّق خرز الخسران قلادة في يديه، متمتماً باسم امرأة ظل ينتظرها عمراً وعمرين وثلاثة، ولكنها لم تبزغُ بعدُ من القصيدة. إنه قطار الأصدقاء الذي لا نعرف من يقوده الآن، ولا يُدركُ أدهانا على أي رصيف ستكون محطته الأخيرة. Adel.Khouzam@alIttihad.ae