جاء الصوت مبحوحاً فيه حرقة وألم، وما أشد ألم الصوت، وما أشد حزنه حين تفقد إنسانة جميلة بحجم المودة والطيبة، كانت سخية تتحدث بعاطفة الوجد، رؤوم بحنانها تحلق في سماء الذاكرة منذ الصغر، حينها كانت تفد من مدينة الدمام إلى مدينة العين، ترسم الفرحة على وجوه الصغار بهداياها، ترسم الابتسامة على محيا الكبار، العين هي المدينة التي رحلت منها مبكراً، لكن لم ترحل من ذاكرتها، وظلت تصدقها الوفاء وتعبق برائحة أهلها، وفي ذاكرتها أيضاً تخبط إحداث المنطقة وتراكمات الشرور التي بددت المسارات. قبيل قيام الدولة بسنوات، رحلت خالتي كنخلة من واحة العين إلى تخوم الدمام، وأثمرت أولاداً وبناتاً خصالهم الخلق الرفيع وصفات نبع الأفلاج، وغصون من الأفكار تشابكت منذ بداية الرحلة، فحينها فقدت الزوج المعيل لها ولأولادها ولم تجزع بل تآلفت مع الحياة إلى انطفاء إشراقتها من الحياة قبيل أسابيع. وحين أغمضت عينيها عن الدنيا، كان لا بد أن أرحل خلف المسافة، جئت لكي أستلهم من مدينة الدمام فجرها الحزين أو هكذا بدأت الرؤى لنا، أنا ورفاق الدرب الذين جئنا نحمل في نفوسنا قبلة وداع للراحلة، أو هكذا تأتي قبلات الوداع في أوج الفجر، وفي أوج المسافة القصيرة على جسر الملك فهد، يستوقفك رجل الجوازات كي يقرأ وجوها واجمة وبصمات جامدة، ويموج الطريق على ضفاف من زرقة البحر والدمام على هدوئها المنتظر. في الحارة التي نقطن، بدأ ذهول الرحيل يلعق جدرانها الساكنة، وينبئ بالوقار والإيمان، الصمت يكتظ في الممرات وكأن الوقت في اختلاج يجسد المعنى الحقيقي للألم، لوحة من جمود الذات تتجلى، المسجد يعج بالمصلين كأنها صلاة الجمعة تحضر وضاءة في وداع عشرة من رجال ونساء وطفلة، تفاوتت أرواحهم في العمر، بينما يبقى الرحيل محطة القدر الأخيرة. كانت هنيهات تسترسل فيها الحياة رتم الوقت، يفد الأطفال إلى المسجد تراهم يقبلون أيادي الكبار، ويوقنون معنى السجود والخشوع، ويهبون الذاكرة معنى آخر للحياة، حين لا ترى إلا أرضاً خصبة في إيمانها، جميلة في روحانيتها عميقة في عروبتها، وسحر العادات والتقاليد تحضر في خصال الرجال. قبيل رحيل خالتي لم أكن لأحضر أمامها، أو لم أحبذ أن أراها وهي في مرضها وانكسارها ومعاناتها الأخيرة، ما أشعرني بعدم الوفاء، ولكن للوفاء معاني لا تتوارى من الذاكرة، ما زلت أذكر رسائل البريد القليلة التي تخط برائحة المسافة وتراكمات الحياة، رحمها الله. Hareb.AlDhaheri@alittihad.ae