استوقفتني مرة.. امرأة في منتصف العمر على زاوية شارع جانبي في مدينة «بورصة» التركية، كانت، وكأنها تحمل حاجيات الدنيا في صرّة، وشيئاً منها كثيراً على جسدها، اعتقدت لأول وهلة، أنها ربما شحاذة من اللاتي يقفن يتصيدن المارّة، طلباً لصدقة، توقفت وقلت: لأمد لها مما تجود به اليد اليمين دون أن تعرف أختها الشمال، غير أن النظر لوجهها أخجلني، وأربك خطوتي، ثمة وضاحة في المحيا، ونعمة بادية عليها، وسمنة لا توحي بفقر مطلقاً، طالعتني، ربما أدركت تعثر خطوي، وثمة أسئلة تكاد تنّطر من صدري، ثم فجأة جفلت، وجحظت عيناها، فظهر بعض التهيب عليّ، وكدت أتراجع خطوة للوراء، وأول تعليق كاد يظهر مني أن هذه المرأة بها مَس من الجنون أو الاضطراب الاجتماعي أو علّة نفسية، أخرجتها إلى الشارع، واكتفت بمراقبة الناس وضجيجهم، ومرور السيارات الكثيرة فارغة أو محملة بأشياء أو ببشر، وكانت تلك من لحظات تأملها وشرودها، تاركة كل الأمور تمر أمامها غير حافلة بها أو مستمتعة بها. حاولت أن أتجاوزها، تاركاً فرصة لردة فعلي إنْ أقدمت على فعل شيء، لا تستطيع أن تقدره، وهي في حالتها، وأقل أمر أن تحذفني بشيء في يدها أو تصرخ بهستيرية أو تكيل سباباً على الحياة، وعليّ، تقدمت تاركاً لعيني مساحة جانبية تستطيع أن تقرأ فيها الفراغات، واحتمالات الاعتداء، مرت الثواني طوالاً، وأنا متحفز، وبي شغف أن التفت للوراء، لقد وضعت تلك المرأة سراً من نفسها فيّ، ولم تسمح لي بمغادرتها ومغادرة المكان دون أن أفهم أو أحاول أن أضع مقاربة لبعض أمور الحياة التي تصادفنا على نواصي الطرقات، ولا تتركنا نمر مرور العابرين. باعدت بيني وبينها الخطوات، هي ماكثة في محلها، وأنا مدبر بظهري، ثم استدرت، وظللت أراقبها من بعيد، لكنه كان مشهداً ناقصاً، حتى وجدت زاوية نظر، تمكنت في النهاية أن أروي ظمأ الدهشة والفضول وشغف المعرفة، وجلست أتأملها من قريب وبعيد، وهي تفتش حاجيات الدنيا الباقية، وهي تؤشر لبعض السيارات المسرعة، وهي تتبع ظلال بعض المارين بعجل، وهي تجلس متكئة على أحمالها، مادة رجليها لتستريح، كانت مشاهدها صامتة، ولا ثمة لغة تخرج منها، فقط عيناها كانتا المرسال للآخرين، وجمود صمتها له بعض الإشارات نحوهم، ونحو هذه الدنيا الجاحدة، والتي لا تعترف ببراءة الأمور كثيراً. وحين حمت الشمس، وغدا كل شيء بطول ظله، غادرت تلك المرأة حاملة ما بقي من أمتعة الدنيا، وأوزار الحياة، نحو جهة ما، لعلها أضاعت فيها ولداً كان فرحة القلب، وضحكته، أو زوجاً غدر بكل الحب، ولم يقل حتى وداعاً بارداً، ولم يتبعه ظل اعتذار لفترة دفء يتذكرها، ربما هي من حرائق حروب تستعر، جارفة الإنسان لكهوف الشر، ونهش الغاب. غادرت تلك المرأة ذات المحيا الوضّاح، والسمنة المحببة لامرأة نسيت أنها أنثى، تاركة شيئاً منها فيّ، ولا أريد أن أتخلص منه للأبد!