لعل المطارات كانت وما زالت تشكل للغالبية من العرب ودول العالم الثالث الكثير من الرهبة والتوجس والتحفز، وتجد الواحد منهم مثل اليتم حَزّة السفر، ولا يدرون حقيقة السبب، هل لأن الخطوة التي تلي المطار هي الفضاء المجهول؟ أم أن للوداع قبله وفيه يخلق ذلك الإحساس بالغياب؟ أم لأن المطارات العربية كانت تشكل مساحة رعب للمواطن البسيط، فيريد أن يختصرها خوف أن تصيبه تهمة لا يدري عنها أو ابتزاز من نوع ما مصدره تلك الشبابيك الزجاجية الغائمة، لذا تجده مضطرباً، مسرعاً، وكأنه مهرب بضائع يتحاشى نقاط الجمارك.
تلك الشبابيك التي تخفي ما خلفها هي من أكثر الأماكن التي لا تجعل المواطن العربي وسكان العالم الثالث يطمئنون، ولا تنحبس أنفاسهم، ولا تتصاعد، ولا يتصببون عرقاً، ولا تخرج منهم تلك الابتسامة الحامضة، حين المثول عند شباك الشرطي الزجاجي خاتم جوازات السفر، والتي تعمل المطارات الصديقة للبيئة أن تحولهم إلى موظفين وموظفات مدنيين، يستقبلونك بابتسامة ليطمئن قلبك، ولا تجفل، ذاك المكان يعتقد الناس بمجملهم أنه عادة ما يخبئ أمراً لا يسر، وأن ذاك الضابط عادة ما ينوي الشر تجاه المسافرين، أقلها أنه ممكن أن يعطل المسافر وخاصة «المربوش» منهم، وأنه يمكن أن يسأله بلغة لا يتقنها، فيشك المسافر في جمله المتلاحقة، ولو كان هذا الشرطي من الدول الإسكندنافية، ويرحب به في بلده الثاني السويد.
أنا أشد ما يوترني النساء، لا الرجال من خاتمي جوازات السفر، يظل الختم في يدها مرفوعاً، ثم تفلّي أوراق الجواز، ثم تقرّب الختم، وتقول في نفسك: حان الأوان أن تخلصني، لكنها تبقى تطرح أسئلة بشأن أختام دول، لا يخصها بها، ثم ترمقك بتلك النظرة التي لا تنم عن إعجاب، وكأنك متزوج أختها عن غير طيب خاطر، وبعضهن «لو الشور شورهن، لما ختمن الجواز، بس عيازة ونحاسة».
وقبل أيام مررت بشرطي ألماني حقيقي، يعني طول بعرض، بشنب وبجاكيت ضد الرصاص، وأعتقد أن إشارة الصاعقة أو القوات الخاصة التي تستقر على صدره، تزيده عضلاً ومهابة، خاصة أن القميص مفصل بالقد والشبر عليه، فأوجست في نفسي خيفة، أن هذا الشرطي المتجهم طبيعة، قد يعطلني بأسئلة ألمانية يمكن الاستغناء عنها دون أن يتضرر أحد، فلما بادرني بالتحية وبتلك الابتسامة شبه المتخشبة، ارتحت قليلاً، ودخل السرور إلى نفسي، وكسر حاجز الرهبة التي تصنعه دقائق التوقف بانتظار ختم الدخول أو المغادرة، لأن هذا الأيام الغبراء ليست مثل الأيام الغابرة.. وغداً نكمل.