الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

روسيا وفرنسا حكاية غرام تنويري

روسيا وفرنسا حكاية غرام تنويري
29 مارس 2017 21:33
لنعد إلى روسيا التي تعاني الإشكالية الاستعصائية نفسها. ينبغي التركيز هنا على الروح السلافية والفرق بينها وبين الروح الأوروبية. ومعلوم أن روسيا سلافية أرثوذكسية بقدر ما أن ألمانيا آرية جرمانية، وفرنسا لاتينية كاثوليكية، وإنجلترا أنغلوساكسونية بروتستانتية.. إلخ. أما نحن، فروحنا عربية إسلامية في الأساس وبها نتمايز عن بقية شعوب الأرض. ينبغي العلم بأن قصة العلاقات التاريخية بين فرنسا وروسيا أو بين باريس وسان بطرسبورغ قديمة وعريقة. وهذه المدينة الأخيرة كانت عاصمة روسيا في عهد القياصرة قبل أن يحولها النظام الشيوعي إلى لينينغراد، أي مدينة لينين. ولكنها استرجعت اسمها العريق الأول مؤخرا بعد سقوط الشيوعية وكل ذلك الغثاء الإيديولوجي الذي أصم الآذان وأعمى العقول على مدار سبعين سنة متواصلة. في النهاية، لا يصح إلا الصحيح. من كان يصدق أن الشيوعية ستنهار كقصر من كرتون؟ انجذاب تاريخي يمكن التحدث عن قصة انجذاب روسيا والروسيين إلى فرنسا والحضارة الفرنسية عموما. فقد كان يوجد تيار كبير مولع بالثقافة الفرنسية. وقد استمر على مدار التاريخ منذ عهد القيصر بطرس الأكبر وحتى يومنا هذا. ولكن العلاقات بين روسيا وفرنسا كانت نادرة حتى بداية القرن الثامن عشر، ولم تبتدئ فعلا إلا في عهد محدِّث روسيا أي مدخلها في الحداثة بطرس الأكبر. ومعلوم أنه أدخل الحضارة الأوروبية إلى هناك مثلما فعل محمد علي في مصر إبان القرن التاسع عشر، ومثلما فعلت سلالة الميجي في اليابان أيضا في الفترة نفسها تقريباً. كلهم كانوا معجبين بحضارة أوروبا وتفوقها ويرغبون في إدخال بلادهم في سلك الحضارة عن طريق تقليدها. والواقع أن بطرس الأكبر عبر عن رغبته بزيارة فرنسا منذ أن استلم الحكم تقريباً. وراح يجزل المديح والثناء على العبقرية الفرنسية، ولكنه لم يستطع تحقيق أمنيته إلا بعد موت الملك لويس الرابع عشر الذي كان ضد هذه الزيارة. ومعلوم أن «الملك - الشمس» باني قصر فرساي الشهير كان حاكما مطلقا لا يناقش في الرأي. وعندما زار بطرس الأكبر باريس عام 1717، أي بعد موت مليكها الجبار بسنتين فقط، استقبلته السلطات الفرنسية بكل حفاوة. وقد تجول في مناطق عدة من العاصمة، وتعرف إلى البرلمان، والأكاديمية الفرنسية، وأحد المصانع، وحديقة النباتات الواقعة خلف معهد العالم العربي حاليا، الخ.وهي حديقة طالما تمشينا فيها وأعجبنا بأزهارها البديعة المتنوعة. ثم عبر بطرس الأكبر عن رغبته في الاستفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي الفرنسي. ولذلك أجزل العطاء لبعض المهندسين والخبراء الفرنسيين وطالبهم باللحاق به في موسكو لتطوير بلاده وتحديث مرافقها من عسكرية ومدنية. وهذا ما فعله محمد علي في مصر أيضاً عندما استجلب الخبراء الفرنسيين لتطوير مصر.. وعندئذ ابتدأت النهضة الروسية بالفعل. عندئذ ابتدأت سياسة التحديث لإخراج البلاد من تخلفها المريع في المجالات كافة. علاج التخلف الروسي بعد موت بطرس الأكبر بفترة من الزمن استلمت الراية الإمبراطورة كاترين الثانية. وقد سارت على هديه؛ لأنها كانت مولعة بالحضارة الفرنسية مثله. وقد فهمت هذه الملكة الذكية جداً أن السلطة بحاجة إلى دعاية المثقفين لكي يطبلوا ويزمروا لها. ولذلك حاولت أن تكسب ودّ الفلاسفة الفرنسيين وعلى رأسهم «البطريرك» فولتير، ودعتهم فوراً لزيارتها في سان بطرسبورغ. ولكن بما أن فولتير كان قد أصبح عجوزاً معمراً ويخشى صقيع روسيا القاتل فرفض الدعوة بأدب. وعذرته الملكة، ولكنها طلبت منه أن تشتري مكتبته الشخصية لكي تضعها في القصر الإمبراطوري. ودفعت له أموالاً طائلة بالطبع، ولذلك راح فولتير يمدحها ويلهج بذكرها أمام الناس بل ويكتب عنها النصوص الداعمة لها والمؤيدة لسياستها. أما الفيلسوف ديدرو فقد ذهب إلى هناك بعد أن أجزلت له العطاء وكرست له راتباً شهريا يحميه هو وزوجته وعائلته من نوائب الزمان. وحده جان جاك روسو استعصى على الملوك وعطاياهم. من يستطيع أن يشتري جان جاك روسو؟! وقد أمضى ديدرو عندها ثلاثة أشهر، وقدم لها كل خبرته العلمية والفلسفية لكي تستفيد منها في إصلاح روسيا وتحديثها على الطريقة الأوروبية. ووضع لها برامج التعليم الجديدة لتطوير العقول الروسية وتنويرها. وهذا يعني أن التغيير الفكري يسبق التغيير السياسي ويمهد له الطريق. الحصان قبل العربة وليس العربة قبل الحصان. على هذا النحو نجحت الانتفاضات الأوروبية المدعوة بربيع الشعوب. أما فيما يخص هذه الطامة الكبرى المدعوة «بالربيع العربي»، فالأمور كانت معكوسة تماماً: انفجارات سياسية عارمة ضد أنظمة بوليسية استبدادية ولكن من دون أن يسبقها أي تنوير فكري، أي بصيص نور. فكانت النتيجة التي نعرفها: اكتساح الحركات الظلامية لكل المشرق العربي. بلدان بأسرها على حافة الحروب الأهلية والمجازر والتقسيم. ثم استقدمت هذه الإمبراطورة الشهيرة خبراء آخرين عديدين ومثقفين ومدرسين لتعليم الروس مبادئ الفكر والعلم الحديث. وعلى هذا النحو انتشرت اللغة الفرنسية بشكل واسع في أوساط الطبقات الأرستقراطية الروسية. وأصبحت هذه الطبقة العليا تتمايز عن الشعب بكونها تعرف الفرنسية وتتكلمها بطلاقة، وكانت تفتخر بذلك؛ لأن الفرنسية هي لغة الحضارة. واستمر إعجاب الروس بفرنسا منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. وأكبر دليل على ذلك غورباتشوف نفسه وزوجته رايسا أو رئيسة. فقد كانا من محبي فرنسا وحضارتها إلى أبعد الحدود. ولذلك فإن أول زيارة إلى الخارج بعد تسلمه الحكم كانت إلى باريس عام 1985. ويقال إن غورباتشوف عندما وصل إلى ساحة التروكاديرو المطلة على برج إيفل والعاصمة الفرنسية ورأى كل هذا التناسق العمراني والجمال الحضاري لباريس قال لمرافقه الشيوعي الفرنسي: أحسنتم إذ لم تتبعونا ولم تفعلوا مثلنا. تبا للشيوعية والشيوعيين! وكان ذلك بداية للبريسترويكا أو سياسة الإصلاح والشفافية والخروج من العهد الشيوعي الستاليني التوتاليتاري. فالرأسمالية أكثر جمالاً وجاذبية من الشيوعية. هذا أقل ما يمكن أن يقال. نقول ذلك، خاصة إذا كانت ملجومة نسبياً من قبل النقابات العمالية الكبرى والحركات الديمقراطية الاشتراكية. وقد فوجئ القادة الفرنسيون بغورباتشوف وزوجته ومدى انفتاحهما على الحضارة الغربية التي كان الحزب الشيوعي يدينها بل ويلعنها صباح مساء! وعرفوا عندئذ أن عهداً جديداً قد ابتدأ في الكرملين، ولكنهم ما كانوا يعرفون أنه سيؤدي بسرعة إلى سقوط الاتحاد السوفييتي والشيوعية كلها. ويبدو أنه كان لزوجة غورباتشيف السيدة «رئيسة» دور كبير في هذا المجال. فقد كانت تكره النظام الشيوعي وتتمنى انهياره وحلول نظام ديمقراطي على الطريقة الغربية محله. ويبدو أن تأثيرها السياسي على زوجها كان كبيرا جدا إلى درجة أنه أغاظ أعضاء المكتب السياسي فراحوا يهاجمونها ويشيعون عنها الإشاعات المغرضة لإهانتها وزعزعتها. ولا ينبغي أن ننسى علاقة الروائي الكبير تورغنييف بفرنسا. فقد باع أراضيه في روسيا، وكان من عائلة إقطاعية كبيرة، وذهب إلى فرنسا للعيش فيها. وكان يقوم برحلات مكوكية إلى بلاده الأصلية بين الحين والآخر. ولكن على الرغم من إقامته الطويلة في بلاد موليير وفولتير إلا أنه ظل يكتب بالروسية رواياته الممتازة. لقد تخلى عن كل شيء ما عدا اللغة. فاللغة هي الوطن. اللغة هي الدم والعروق. وإذا ما تخليت عنها تكون قد مت أو انتحرت ثقافيا أو ارتكبت الخيانة العظمى فعلا. وهو أحد الثلاثة الكبار في الأدب الروسي: تورغنييف، تولستوي، ديستويفكسي. وكانوا متعاصرين ومتنافسين في آن معا. ومعلوم أن ديستوفسكي اصطدم بتورغنييف مرة وهدده وشتمه قائلا بأنه عميل للغرب وخائن للوطن. وفي ذات الوقت طلب منه أن يعيره بعض المال لأنه كان على حافة الجوع وهو يدبج روايته العبقرية: «الجريمة والعقاب». والأنكى من ذلك أن تورغنييف صاحب رواية «الحب الأول» استجاب لطلبه وأعاره مبلغا من المال وهو يعرف أنه قد لا يعود. وأما محبة تولستوي للأدب الفرنسي وبخاصة لكتابات جان جاك روسو فهي أشهر من أن تذكر. ويقال بأنه كان يحمل ميدالية ذهبية مخفية في صدره وعليها صورة صاحب «العقد الاجتماعي». وما كان يحلف إلا باسم جان جاك روسو، وكان يعتبره أعظم كاتب ومفكر في العصور الحديثة. كان قدوة عليا بالنسبة له. حقا إن فرنسا أثرت تأثيرا كبيرا على أدباء الروس وقادتهم ومفكريهم.ويمكن أن ندبج كتاباً كبيراً عن حكاية ذلك الحب الغرامي الطويل.. ولكن يمكن أيضاً أن نكتب كتابا ضخما عن تأثير الثقافة الفرنسية على العقول العربية بدءا من رفاعة رافع الطهطاوي وانتهاء بالعياض بن عاشور وعبد المجيد الشرفي مرورا بطه حسين ومحمد مندور وعبد الله العروي ومحمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري وعشرات الآخرين. وبالتالي فيمكن أن نؤلف كتابا ضخما بعنوان: «تأثير التنوير الفرنسي على المثقفين العرب». ولكن هذه قصة أخرى وحديث يطول... من القيصر الأكبر إلى الإمبراطورة يبدو أننا لسنا وحدنا المبهورين بالحضارة الفرنسية وبالأخص بالإشعاع الثقافي الباريسي. فهناك غيرنا يعاني الغرام نفسه وبالأخص الروس. والصراع بين السلافيين/‏‏‏ والمستغربين شغل مثقفي روسيا منذ القرن التاسع عشر مثلما شغل المثقفين العرب الذين انقسموا إلى قسمين كبيرين: أصولي رافض للحضارة الغربية /‏‏‏ وتحديثي مبهور بها. وفي رأيي خير الأمور أوساطها، أعني الخط الثالث الذي يعتز بتراثه العربي الإسلامي كل الاعتزاز في الوقت الذي ينفتح على الحداثة الفرنسية والغربية عموماً. إنه يأخذ من تراثه أفضل ما فيه ومن الحداثة أفضل ما فيها ويصهر كل ذلك في بوتقة واحدة. ولكن القول سهل والتنفيذ هو الصعب. فهنا تكمن الحلقة المفرغة، الحلقة الضائعة التي لا نزال نلف حولها وندور منذ مئتي سنة وحتى اليوم. هنا تكمن المعادلة العسيرة وأكاد أقول شبه المستحيلة للعرب حالياً. ولكنها المعادلة المنقذة من دون أدنى شك. درس «الربيع» الأوروبي أدركت الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية أهمية الفكر والثقافة فسعت إلى استقطاب الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين، وأرسلت لهم لزيارتها.. وقد أمضى ديدرو عندها ثلاثة أشهر، وقدم لها كل خبرته العلمية والفلسفية لكي تستفيد منها في إصلاح روسيا وتحديثها على الطريقة الأوروبية. ووضع لها برامج التعليم الجديدة لتطوير العقول الروسية وتنويرها. وهذا يعني أن التغيير الفكري يسبق التغيير السياسي، ويمهد له الطريق. الحصان قبل العربة وليس العربة قبل الحصان. على هذا النحو نجحت الانتفاضات الأوروبية المدعوة بربيع الشعوب. أما فيما يخص هذه الطامة الكبرى المدعوة «بالربيع العربي» فالأمور كانت معكوسة تماما: انفجارات سياسية عارمة ضد أنظمة بوليسية استبدادية، ولكن من دون أن يسبقها أي تنوير فكري، أي بصيص نور. فكانت النتيجة التي نعرفها: اكتساح الحركات الظلامية لكل المشرق العربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©