ما أقسى فعل الحروب، وما تفعله في البشر، يتساوى فيها القتيل والمشرد، فكل واحد حمل أوزارها، واحد إلى قبره، دافناً أسرارها معه، والآخر إلى أشطان غربته، مع نفس معطلة، لذا حتى اليوم هناك قصص وسرديات عن الحرب العالمية الثانية تحكى ولا تعاد، ولعل ما ستحمله الحرب في سوريا، سيظل الرواة والحكاؤون يقصون قصصها التي لن تنتهي.. وحده القاتل سيظل ملاحقاً بأشباح الليل، يصعب عليه النوم، والتنفس بعمق إلا الحسرة، وتلك الأسئلة التي تلاحقه كظله الواهن. ما أفرزته عبثية حرب سوريا تلخصه قصة أسرة انتزعت منهم ملكية مصنعهم، ونهبت أموالهم، وأبتزّهم الجميع، والكل كان يطرح عليهم حمايتهم، والمحافظة على حياتهم، مقابل جزية يدفعونها أو أتاوة مفروضة عليهم، ولأن حياة الأسرة أهم من كل شيء حين يطرح على الإنسان المفاضلة بين المال، وما يملك من متاع الدنيا، وبين الحياة وحفظ الكرامة، وطهارة الشرف، لكن من يأمن ذئب طليق جائع على حملان ضعيفة، يمكن أن تبتز بالخوف والرعب والسلب، فدفعوا ما يملكون، ولم يسلموا من الأذى والذل وامتهان كرامة البشر، ثم فرّقوهم ليزيدوا من ابتزازهم، وصنع الدسيسة بينهم، أربع صبايا وخمسة شباب، كانوا قبل سنوات يخططون لمستقبلهم وحياتهم وتعليمهم وإدارة دفة أملاكهم وتجارتهم، واليوم يفكرون في عودتهم وعودة السلام لمدينتهم، ولمّ شمل تلك الأسرة التي كانت منعمة، في جنات تجري من تحتها الأنهار، والآن، وكأنهم لم يغنوا فيها، لا يريدون من الدنيا إلا فراق الحرب، وأن يضمهم منزلهم الكبير الذي ظل ينتقل من يد زعيم مزيف، لزعيم حرب، ولقائد تنظيم، وهو اليوم بالتأكيد خراب، تفرق دم هذه الأسرة بين المدن، وقصص التقصي بحثاً عن بعضهم بعضاً، تدمع العين، وتفطر القلب، ابن في تركيا، والأم والأب في مصر، وأختان في الداخل حيث الضياع، وأخ ترك أخيه خلف موجة غيرت وجهتها، ولم يبق منها إلا صوت الأخ المسافر في عمق تلك الزرقة، وأخ وأخت في الأردن، وأخ يقال إنه قطع البحر للشمال، وانقطعت أخباره، وأخت جاء من يسترها، واستقرت في الخليج بعد رحلة شبه مستحيلة، الجميع عالق حيث هو، ولا اتصال أو تواصل أو شيّء يبرّد حرقة الجوف، ومع الأيام وقسوتها، وعتال ساعاتها المثقلة بالأسى، بدأوا يطحنون في دوامة أماكن لم يعرفوها من قبل، وظروف لم يعيشوها من قبل، ولا أمل يمكن أن يجلبه الدعاء، ولا صبر يمكن أن تعضده مرئيات في الأفق، ولا دمع يمكن أن تجففه ساعات الليل الطويل. ليس أصعب من حرقة العزيز، وذل الكريم، وابتزاز المحتاج، وقصة هذه الأسرة النبيلة، هي واحدة من قصص عبثية الحرب في سوريا، وما تفعله في البشر!