هُجنةٌ زمني. وما نحولُ فصاحتي اليوم، إلا لأن عُجمةَ من حولي تفاقمت حتى غصّ المكان بألسن الغرباء وغمغماتهم. إن التفتُّ يميناً لا أرى ما كتبناهُ على جدار مدرستي في الطفولة، ولا ما حفرناه على أسوارها إيذانا ببلوغنا مراتب الحب. وإن نظرت شمالاً، لا أثر للصحراء التي تنأى بسرابها وغموضها وتبث في عيون خيالنا شهوة التيه. ولأننا كبرنا سريعاً، لم نلتفت للذكريات وهي تشيخُ في دوراننا الآليّ حول وظائف الصبر. نذهبُ صباحاً للوقوف في النقطة نفسها، ولنردد بيت الشعر الوحيد الذي حفظناه. ثم جاءت التكنولوجيا مثل عاصفة من الحروف والصور ولطخت وجداننا بمعارف الأرض وأخبارها وأنباء الأقاصي والدهور. كان الكتاب جليس البدايات، رفيق الأسئلة الأولى حين كنّا نسهرُ على ضوء شمعة لنناجيه. وكان القمر عينُ الليل وهو يراقبنا في السطوح. لكننا اليوم، نرى القمر في جهازنا الضوئي، في الهاتف الذي يختصر العالم إلى مجموعة من الأزرار التي تحيلنا إلى بحر المعرفة اللانهائي.
هذا الركض السريع في الزمن، عبرناه بخفّة ونحن نسابق أحلامنا. رمينا الأقلام واستبدلناها بلوحة مفاتيح للحروف. ثم أهملنا الأوراق لأن صورتها أنقى على شاشات الهواتف والكمبيوتر. لم يتغير الشعراء، لكن صورهم صارت أكثر من القصائد. ولم يتغير الثرثارون، لكن زمن الرواية تناسل في هيجانهم حتى تكاثروا زبداً في زبد. لم تعد الحقيقة موضوعاً فلسفياً كي تطاردها العقول، وإنما هي مجرد تعبير نسبي لما يمكن دحضه. وفي لحظة ما من هذا الركض، صرنا نفتّش عن النقد فوجدناه ميتاً في سرير الفراغ وعلى ثيابه بُقعُ دم أزرق. ورأينا الرسّام يكسر ريشته الناعمة ويبتكر لوحة الفيديو. إنه انقلاب الزمن على نفسه كي يغيّر جلده. وهو شيءٌ نراهُ ونحسّه نحن فقط أبناء الجيلين. أما ما سيقالُ أو يُروى بعد ذلك، فليس مهماً بالنسبة للقادمين من الطفولة. هؤلاء الذين يسبحون الآن في فيضان المعرفة من غير أن يصابوا بالذهول. ومن غير حرج، يتأتئون على المنابر، وتختلط على ألسنتهم كلمات من لغاتٍ شتى.
هل الذي يركض أسرع من الزمن يخرج منه؟ هل يذهب البشر يوماً لابتكار لغة واحدة مركّبة من اللغات كلها؟ وهل نسمع يوماً (فصحى الهجنة) وقد صارت ترنيمة على فم الشعراء الجدد. بقوافي مستوردة وبحورٍ نافرة في التفاعيل؟