في مطلع السبعينيات من القرن الماضي أطلت على الساحة المغربية والعربية فرقة من خمسة أشخاص، أتوا جميعاً من «الحي المحمدي»، أحد أفقر الأحياء في مدينة الدار البيضاء المغربية، يحملون شغفاً موسيقياً ورغبة عميقة في تقديم ما هو مختلف وجديد في عالم الموسيقا العربية، يحملون هماً وطنياً وأحلاماً تلامس الغيوم وأبعد، أحلاماً تكرست في الذهنية الشبابية في ذلك الزمن المختلف من تاريخ الأمة العربية، زمن التطلع إلى الجمال والتغيير على كل الأصعدة، زمن رسوخ الرغبة بإنجاز مستقبل مشرق للأوطان والشعوب؛ من كل ذلك أتى أولئك الخمسة كي يغرسوا نبتة في أرض الأغنية المغربية والعربية، أتوا من الهامش يحملون الطار والأوتار، يحملون لحناً قديماً بثوا فيه من أفكارهم الجديدة معنى آسراً للطرب. إنهم أعضاء فرقة «ناس الغيوان»، تلك الفرقة التي شكل نواتها الفنانون: بوجميع والعربي باطما وعمر السيد وعبد العزيز الطاهري ومحمود السعدي. الفرقة التي ما زال سماعها يثير الكثير من الشجن ويحرك الكثير من المشاعر؛ فعند حد آلاتهم يترنم ويسرح الذهن في سحر النغمة التي اقتبسوها من موسيقا التراث المغربي كالقناوي والعربي والأمازيغي، فحفزت وألهبت آلاتهم البدائية التي استخدموها مشاعر الجماهير التي تمايلت طرباً وحماسة مع تلك الألحان التي كانت تبثها تلك الآلات الوترية الساحرة مع رفقة الطار و«الدربكة»، آلات ربما لم يعتقد أحد أنها يمكن أن تثير وتطرب تلك الجماهير في زمن التجديد عبر الآلات الغربية، إلا أنهم صنعوا بها ما لم يكن يتوقع من نجاح باهر. فيما كان الكلام الذي استقوه من أشعار الشعراء الجوالين والمتصوفة لاذعاً وقوياً، ويخز حد الوجع الذي يجعل الجماهير تتمايل وترقص، كتمايل ورقص «العصفور من الألم»، كلمات تمس الداخل وتقبض على الألم، ففي وجوه المغنين، أداء صلب بلمحة الحزن الآسرة، وليس بضحكات غبية وابتسامات تضفي على الأداء بلاهة أكثر منها لطفاً ومداعبة للجمهور؛ فأداؤهم الصارم لا تستطيع أن تحيد عنه أو تتجاهله، أنه يأسرك ويأخذك إلى أعماقهم وهم يغنون وكأنهم يغنون لك، يسمعونك حقيقة لا يمكنك أبداً وعلى الإطلاق أن تلتفت عنها وتمضي، فكهنة الغناء الشعبي والثوري هؤلاء يشدونك إليهم بسحر لا يقاوم في أغنياتهم وأصواتهم العميقة. ويفسر أحد المواقع تسمية ناس الغيوان بأنها عبارة تعني «أهل الفَهَامة»، وهم أناس يفهمون ويستنبطون ما وراء العبارة فلا يكتفون بظاهر لفظها، وإنما ينجذبون عميقاً إلى صفاء استعاراتها ومجازاتها. لهذه الفرقة التي انحسرت تقريباً بفقدان أهم أعضائها المؤسسين، انحناءة احترام لجمالهم وسحرهم النموذجي والخاص جداً، حيث ينعشون الروح حين الإنصات لهم في هذا الزمن الذي ما عاد يطرب إلا بقدرٍ شحيح. saad.alhabshi@alitthad.ae