للسيدة الجليلة في عيدها باقة من ورد أكثر وأكبر، أكثر من الاعتذارات، وأكبر من الشكر، باقة من حب يليق بسيدة العالم.. تلك التي تحتضن البدايات البكر لكل الأشياء الجميلة في الحياة، مانحة لها ذلك التأنيث، وذلك الارتواء، وذلك العطف الذي لا ينتهي. نتذكرها اليوم.. ونَحنّ لكل تفاصيلها في المشهد، وكل خطواتها على بساط الحياة، الذي لم يكن أملس طوال الوقت، أو أخضر على الدوام، نتذكرها بفرح طاغ، متمنين لو بقينا مثل أطفال الحكايات في قصصها المسائية، لا نكبر إلا في الرأس، ولا نغادر إلا حين نحلم، أو نطير مع أبطال الزمان، أو حين يغلبنا النوم على رجلها أو دفء حضنها، لا نبرح المكان، ولا نبرح ذاكرتها. اليوم·· هي ذاك المشهد الجميل في الوقت الجميل·· الذي غاب كخفقة جناح طائر خفيف، تحضر هي.. بدقة الهاون في صباح العين الندي، وقهوتها المقندة المعمولة للتو، فرحة الصبح وحركتها التي لا تنتهي.. وذلك الحنو على الجميع، تشبه الحياة حين تكون في زهوها، مرة.. هي اللغة الأولى، والحروف الأولى، والنطق والتأتأة والتلعثم، ومحاولة الحبو والوقوف والسقوط، ودمعة الكحل عند المساء، أو لحظة التقميط، أو ساعة الاستحمام أو ليلة الحناء أو وقت الفطام، هي.. الخطى الأولى نحو المعرفة، وتلك العذوبة والبساطة التي تختزل الحياة بـ «الحمد لله»، هي ضحكة الحياة التي تختبئ خلف الأيام، وخلف العمر الذي يجرّ أبناءها أمام عينها نحو الكبر، ونحو أعشاشهم الجديدة، فيما تظل هي تصرّ «الشفايا» في طرف «وقايتها» أو «مندوسها» لحين يحضر الغالي. - للغاليات الغائبات.. لكنّ حضور لا يغيب، وإن غاب حضر اليوم بكل معنى التذّكر، ومعنى الغياب، فما زالت تلك الغرفة المسكونة بالبسملة، ومسك الصلاة، وعطر السجادة يجول فيها ظلك، وما زال سريرك بارداً كما هو إلا منك، وما زال المنزل يسمع صوتك، وأنت تتحدثين مع إحدى الجارات، ويردد نداءك على الأحفاد، ما زال ظلك يتبع ظلك عند نخيلات تنتظرين بشارتها، وشجرة ليمون تخضّر ثم تصفّر في عينيك، ووسط رقصة قلبك، وهناك شجرة رمان وتين يشبهانك حيناً، لأن لها فقط صفة المباركة والتقديس، صف الورد والياسمين، ترقبين الهلال، وتقولين: غداً سينوّر، وغداً سيودع رائحته على الأركان، وثمة حبات من شجرة «الهمبا» تخبئين طلعها للأحفاد وللغالي ولصغاره، وحين تعبت الأقدام، ووهن الجسد، وقلّ النظر، سمعت أركان البيت بهمس الوجع الذي تريدين أن تخبيئه عن الأولاد، وكأنهم لم يكبروا، وحين قلت الآه آخر مرة، تصدعت، وكأنها ضلوع أبنائك! ليت للحياة قلب أم.. ووجه أنثى، لكانت السماء تبدو قريبة، والخير لا يفارق دنيانا!