في الطريق إلى مكان عملك، أو مركز تسوق، أو نادٍ، أو شاطئ بحري، تصادفك وجوه مختلفة، وكأنك تجول في حقل، هذا الحقل فيه الأعشاب اليابسة، وفيه الزهور اليانعة، فلا وجه واحد للحياة، هي هكذا تجمع كل المتناقضات لأنها لا تستقيم إلا بذلك.

الشارع مثل الحقل، فطالما طرقته، فعليك تقبل متناقضاته بصدر رحب، وإلا عليك أن تلزم مكانك، ولا تغادر غرفة نومك، وبذلك تكون مثل الخنفساء المحبوسة في زاوية الأبدية الميتة. عليك أن تكون جزءاً من هذا الشارع وليس الكل فيه، لتعيش هادئ البال، مرتاح الضمير.

وهذا يقودنا إلى الذين يمسكون بطرف الحياة، ويعتقدون أنهم امتلكوا زمام الكلية فيها، وبالتالي لا قدرة لهم في تقبل الآخر، ومن ثم لا استطاعة لديهم في رؤية فكرة تخالفهم، فتجدهم في ضيق وكدر عندما يلاقون المختلف، وتكون صدورهم أضيق من ثقب إبرة فلا خيط رفيه يمضي بسلاسة في النفق الضيق، ولا فكرة تدخل في وجدان الصدر المذعور من التنوع، والاختلاف.
نجد في الواقع، أشباه بشر، تحوم على رؤوسهم طيور الأبابيل، فتفزعهم، وتملؤهم رعباً من وجود لون غير اللون الأسود الذي يجثم على عقولهم.
وفي الشارع، نصادف مخلوقات مرتبكة، متوترة، زائغة البصر مرتجلة الوجدان، ولو لا قدر الله أن وقفت أمامهم في موقف، أو جاورتهم عند إشارة ضوئية، تجد القنوط يتسلق جباههم، والسخط يرتكب جريمته الكبرى على وجناتهم، تجدهم عابسين، بائسين، تطفر من عيونهم ومضات اللهب، وفي لفتاتهم تقفز شرارات الغضب، ولا تدري لماذا كل هذا السغب، والحياة بسيطة، ومفردات الوجود عفوية، مثل ضمير غزالة برية.وهنا تقفز مقولة فرويد عن الإنسان المعاصر «أن في الإنسان بقايا عصر الغاب»، فتسكتك هذه العبارة الدالة، وتعيدك إلى قول المسيح عليه السلام «أحب المذنبين» أنها عبارة تدلك على العفوية، عندما تبرز كواقع حياة، والبراءة عندما تحمل قيم الجمالية في روح الإنسان.
الإنسان هو نفسه في كل العصور، وما يتغير هو العقل، فعندما يتلوث، يصبح كائناً وحشياً لا يقبل سواه في الغابة. عندما يفارق الإنسان إنسانيته، يكون منعزلاً، ولا ثان في مخيلته إلا هو، فهو الواحد، وهو الاثنان، فكيف سيدع مكاناً للآخر يسكن الغابة، إنه المستحيل الذي يتمشى في ذاكرة الشخص المنعزل، والشخص الذي وجد نفسه جبلاً ضخماً على جغرافية الحياة، وبالتالي لن يعيش إلا هو كما يعتقد، وكما تصوره له مخيلته المريضة.