عندما يُقتل إنسان في أقصى الأرض، نشعر أن نجماً يسقط من السماء ليحرق قيمة من قيم السماوات والأرض، وعندما يفكر كائن ما أن يقتل إنساناً أياً كان دينه وعرقه، فإن الفكر البشري في خطر، وأن الحضارة الكونية تحتضر، فالقتل في حد ذاته يعني تلاشي الوجدان البشري وانهيار الثوابت، وهو في النهاية عدمية وعبثية تفسر مدى وحشية الإنسان عندما يفقد مشاعره الرحيمة، فكان الإنسان في بدء الخليقة يحمل حجراً مسنناً أو سكيناً أو فأساً ليواجه به الوحوش الضارية التي قد تهاجمه بغتة وتقضي على حياته.. وبعد أن روض الإنسان الحيوانات، مستعيناً بقدراته العقلية التي تميزه عن سائر الحيوانات، ولكن هل ألقى الإنسان مديته الحادة بعد أن أمن جانب الكائنات المتوحشة؟ بالطبع لا، لأنه عاش التجربة في صراعه مع الحيوانات، ولمّا لم يجد ما يواجهه في هذا الفصيل الحيواني التجأ إلى منافسه الأشد، وهو الإنسان الذي من دمه ولحمه، وهي سمة من سمات الصراع الحضاري البدائي، ولكن بعد النشوء والارتقاء وبعد أن اكتمل نمو العقل البشري وأصبحت هناك ثقافة ما تقنن سلوكه وتضبط علاقته مع الآخر، صار من الممكن للإنسان أن يحقق ذاته من خلال مقارعة العقل بالعقل، وصار من السهل على الإنسان أن ينجز مشروعه الإنساني من خلال التواصل مع الآخر بثقافة شفافة معتمدة على منظومة فكرية مستقاة من التجربة وخبرة القرون. وبهذا الإنجاز استطاع الإنسان أن ينشئ حضارة إنسانية واسعة الحدقات، رفيعة البنيان، ناصعة البيان، ولكن وللأسف إن بعض البشر لا يزالون مثبتين عند مرحلة الطفولة الحضارية، هؤلاء ناكصون عند مراحل ما قبل التاريخ، ولذلك نجدهم لا يفكرون إلا في منطق القوة ولا يتصرفون إلا بسلوك الغاب، وعلاقتهم مع الآخر مبنية على الشك والريبة، كما هي علاقة الإنسان الأول مع بيئته الحيوانية، الآن نحن نشاهد دولاً متخلفة علمياً، ضئيلة حضارياً، تعاني شعوبها الفقر وويلات الجهل، ولكنها تتباهى بقوة وهمية، وكأنها صانعة المعجزات التكنولوجية في الكون. هذه الدول تختزن كماً هائلاً من الكراهية، ما يجعلها تشعر بالريبة من كل ما يحيط حولها من شعوبها، وبالتالي فهي لا تفكر إلا في العدوان، ولا تنطلق إلا من منطلق الفكر العدمي، لأنها لا تملك ما تحتفظ به غير الخواء الثقافي.. إذاً نحن بحاجة إلى تفكير عميق وإلى تبصر يجعلنا نحمي أنفسنا من هذه الحماقات والكائنات الضالة، وخير وسيلة للدفاع هو أن نعد أنفسنا لثقافة تستوعب هذا الطوفان ولا تنحني له، تذيبه ولا تتأذى من سخونته، تحجمه ولا تنكمش أمامه، تلجمه ولا تصمت إزاءه.. والمواجهة تبدأ بثقافة «البيت الواحد»، واعتبار كل إنسان يعيش على هذه الأرض، هو جزء لا يتجزأ من عملية التثقيف الصحي، واعتبار الانتماء للوطن الواحد، هو انتماء للجسد الواحد، حينما تسقط أقنعة المزورين والمهرولين باتجاه اغتصاب الحقائق.