ضِدّانِ أنتَ، وبقية الأكوان وحدةٌ واحدة. هذا لأنك المقسوم بين عقلٍ وقلب هما كفتا ميزان ذاتك. وهذا لأنك كلما نظرت من حولك، أدركت أنك لا تزال في المنتصف، حيث البداية بعيدةٌ وقد كانت قبل لحظات، وحيث النهاية قريبة لكنها في احتمالات السنين عمرٌ بعيد. ووقتك الذي تذروه عبثاً في الذهاب وفي الغياب وفي الإياب، هو الدائرة التي لا بد أن تكسر قوسها كي تحرر أيامك من الكلسْ، وخطوتك من الشلل. ولكي تهنأ، لا بد أن يتصالح الضدان فيك أولاً. أن تسكن في الأبيض، وتبجّل الصباح كأنه ميلادك الأوّل. ثم تسكن في الأسود وتطيع أوامر الليل ممتناً لقمر السهر، ومفتوناً بنداء النجمة البعيدة. وسوف تظل هكذا، تميلُ إلى اليمين قليلاً فينهشُ من أحلامك المنادون بشريعة الانكفاء. وتميلُ إلى الشمال قليلاً، فتسقط في الغلوّ وتتكسر البوصلة في يدك وتسقط الوحل. زمانان أنتَ لأنك حرٌّ، وبقية الناس محبوسون في الساعات. كلهم في الفجر يلهثون وراء الأشياء الزائلة، يطاردون فراشة الوهم من حفرة إلى حفرة، ويشربون من السراب ما يغذي عطش أرواحهم الجافة. وفي مدارسهم يردد صغارهم صدى البطولات التي غُبرت، ويُنشدون صدى التكرار. بينما أنت تقفزُ من فكرة الماضي لأنه لا يعود، متشبثاً باللحظة الآن تريدها خلوداً سرمداً، فإذا ملكتها ملكت المستقبل، وصافحتكَ يدُ الدهر، وقبّلت جبينك امرأة الزمان. وما سيحدثُ بعد ذلك، أنك لا تعود مفصولاً عن فكرة المطلق. ويكون (ما قبل) و(ما بعد) مجرد خطوتين في جريان نهرك على خط الاستقامة المتعرج. مكانان لكَ هما الداخل والخارج، لكن الحدود بينهما أبعدُ من أن تقاس. كلما أوغلت في فهم ذاتك، كلما تراءى لك الخارج مرآةً لظنّك. وكلما أصغيت إلى الصمت الذي يسكنُ جوهر الروح، كلما سمعت صوت النقاء الأصليّ قبل أن تدخل عليه وشوشات العابرين من حولك. وإذا جلست في نأيٍ وأغمضت عينيك، سترى أنك تدخلُ إلى الحقيقة من بابها الشاسع، وتتكشف لك أسرارها طيفاً بعد طيف. أما إذا خرجت للضوضاء، وسمحت للهذر أن يسكن أذنيك، فلن يزيدك ذلك إلا ابتعاداً عن فحوى وجودك. ولأنك تفتّش عن الحرية وتودُّ تقبيل عينيها، لن تنال مرامك إلا إذا انطبق الزمان على المكان وأنت فيهما وبينهما مركز الكون كله.