شفيفاً هادئاً، كحريرٍ مترف، تهطلُ، لا عصف يجيء بك إلينا ولا طوفان يزعزعنا، كأنك وعد العطاشى وترنيمة السحب. كنا انتظرناك طويلاً. الجذر عطشان والغصن صوّحُه اليباس، وقلوبنا يطوّحها التمني بين المدارات القصية، ويطوّقها الجفاف! كنا صغاراً في رهافتنا نزق الطفولة حين تهطل.. هرج أقدامنا عند الهطول، ونشوة على وقع الرذاذ. عزف على سقوف الدار وقعك. ونحن من رهبة يعصى علينا النوم وإنْ استرقنا غفوة أيقظتنا بطرقك الرتيب. كنا نخاتل الطاعة، ونقترف العصيان كي نحتفي باللعب في ضحالة الغدران. كم مرة نقشت هطولك على دفاترنا، وجمعنا قطراتك من ثقوب السقوف وخيانة الجدران. كان لوقع القطرات على الأواني عزف منفرد رتيب يقض غفو طفولتنا ويطارد الأحلام. حينها قلنا بدائية منازلنا إذ ترشح الماء ويثقبها المطر الطفيف. وبدائية شوارعنا إذ تجمع الماء أنهاراً وغدراناً ويغرق خطونا فيها اشتداد الهطول. وها نحن بعد وطأة السنين والحضارة، نحتفي بك كما كنا صغاراً، ونغرق في شبر مائك كما كنا صغاراً. نشوانة أرقبك من غلالة الزجاج. وأرقب الغصن مبتهجاً والأوراق في التماعتها، والجذر يشربك في لهفة الظمآن. لا عصفاً تجيء إلينا ولا طوفان يجرفنا. كأنك الرأفة تحنو على قيظنا، أو أنك الرحمة ترفو سرائرنا، أو أنك الماء الذي من سره جئنا. قديماً كنا نجمعك لمواسم الجفاف الطويلة، لأنك الزلال والملح لظى شفاهنا وأسوارنا. ابتكرنا لك المصائد وحرثنا لك الطين وشهوة البذار، فخذلتنا، كأنما الغدر طبعك في مواسمنا، والبحار خؤونة حين تضاريسنا تسورها. تلك البحار التي رحم الولادة ومنبع الهطول، لكنما الرياح لعب الطبيعة إذ تنأى بك حيناً، وحيناً تراوغك وتطوح السحب إلى غير تربتنا. لماذا علينا انتظارك الأبدي؟ ظمآنة تضاريسنا، وظمأى قلوبنا إلى غيث ينبتنا لنخصب الحب والورد، وننتقي أقدارنا. لا ريح تسيرنا كما نشتهي، ولا مطر يخاتلنا على غير موعد. و لا نحن الجفاف في رغائبنا. اهطل غزيراً أيها المطر الرحيم، اهطل على رأسي، على جسدي على روحي، على حلمي، على غصني، على جذري. اهطل على أرضنا الجفاف، على قلوبنا الجفاء. على وحشتي التي تئن في المساء، على صباحي الذي يتوق للضياء. اهطل علي غزيراً لأنني أتوق أن أكون كالهطول في العطاء. اهطل فنحن كائناتك التي تنسل من رحمك الخصب، ومن غموض الكيمياء. **** {الغيومُ قطنُ السماءْ كلما أجهشَ البحرُ ضمّدتْ حزنَهُ ومضتْ في البكاء!}