منذ بدأ الإنسان بالاندماج مع غيره من البشر في تجمعات، عرف أشكال التنظيم والالتزام بالواجبات، مقابل الحصول على حقوق يضمن خلالها بقاءه ضمن المجموع. ولذا لا يمكن أن يناقش عاقل، بأي حال من الأحوال، جدوى حاجتنا للقانون، فقبل أن تَحفظ التشريعات القانونية واجبات الفرد، وما عليه للآخرين وللمجتمع، فإنها تحفظ في الأساس حقوقنا وواجبات الآخرين تجاهنا. هذه العلاقة القائمة على الحاجة الإنسانية للعيش في بيئة تحكمها قواعد عامة، توجه سلوك الأفراد، وتحفظ مصالحهم، بعيداً عن سطوة وسلطة وأمزجة ونزوات أيا كان. وهذه العلاقة القائمة في الأساس على المصلحة لا يمكن الارتباط بها إلا من خلال قدرة القانون على أن يكون نافذاً في الواقع المعاش. إذ كلما تمكن القانون من فرض تشريعاته بين الناس، وبشكل عادل ومتساو مع الجميع، زاد احترام الناس له والتزامهم بتنفيذه. وكلما طال زمن تعرض الأفراد والجماعات لنظام قانوني، يحترم حريتهم وسلامة مجتمعهم، تحول احترام القانون إلى مكون في ثقافة الأفراد، مع التأكيد بأنه اقتران شرطي مرتبط بتحقيق المصلحة، ففي حالة زوال الشرطية ستنتفي حالة احترام القانون، عاجلاً أم آجلاً، فعندما لا يأمن الإنسان على نفسه وماله، وعندما يفقد قدرته في حصوله على حقوقه، فإنه بالتأكيد سيخرج عن احترامه للقانون، وبالتالي لا يمكن اعتبار ثقافة احترام القانون مكوناً أصيلاً في فطرة البشر.. بل ولن يكون ذلك. إذ حتى المكونات الثقافية الأصيلة النابعة من الدين والعرف يمكن أن تتراجع مكانتها في حالة مواجهتها مع معايير العدالة والسلامة والحرية. كيف يمكن لثقافة احترام القانون أن تتفوق على ثقافة أخرى نابعة من الدين أو العرف؟ على سبيل المثال قيم إغاثة الملهوف، وإيواء الغريب، أو نجدة المحتاج والاستجابة لنصرة القريب، تتعارض -مثلاً- مع قانون تجريم إيواء المطلوب قانونياً، أو تغريم الكفيل الصوري.. وغيرها من السلوكيات التي تُعد متجذرة في الكيان الثقافي لإنسان المكان، والتي لا يمكن أن تتراجع أمام ثقافة احترام القانون بسهولة، إلا إذا فرض القانون سلطته على سطوة الثقافة المتجذرة، وأكد عبر عقوباته الحاضرة بلا تلكؤ، والعادلة على حد سواء بين كل الناس، وبرهن أن هذا لمصلحة الكيان العام للمجتمع. إذا تمكن القانون من ذلك، سيفرض احترامه على الجميع، وسيصبح الحامي الأساسي لحقوق الأفراد في المجتمع، وسيتمكن أن يفرض ثقافته على الجميع، سواء اتفقوا بشأنه أم اختلفوا.