تقف الحرية شرطاً لازماً لأي اتجاه تنويري، ومن دونها تنتفي كل المشاريع التي ترنو للمستقبل وتغازله من جهة الحاضر. وبالمقدار الذي تتوفر فيه الحرية في أي مجتمع، يتسرب بالقدر نفسه ضوء التنوير. هذه المعادلة البسيطة، يصلح تطبيقها على كل القيم الفكرية والاجتماعية. فإذا توافرت حرية النشر، سنرى أن صناعة الكتاب تزدهر، ويكبر صوت الفكر، وتتعاظم قيمة النقد وبالتالي يجد العقل المساحة الكافية للجدل والحوار. بالمقابل إذا تكاثر المنادون بمنع الكتاب، وتقليم أظافره، وقصّ أجنحته، فإن هذه المجتمعات تتخثر من الداخل، وينهش السوس لذة الحياة فيها. وبدلاً من الكلمة المبدعة، ترتفع زمجرات الغوغاء. وبدلا من إعمال العقل في المسائل الحيوية التي يحتاجها الناس، يتوجه العموم إلى الماضي بحثاً عن حلول للحاضر والمستقبل.
والحرية في عمقها الفلسفي، ليست تلك التي توفرها المنظومات الاجتماعية فقط، وإنما هي في لبّ وجوهر التفكير الإنساني. بل هي الأس الذي تتفرع منه أفعال وأقوال الخير. على عكس أقوال وأفعال الشر التي تنبع من الخوف واليأس وضيق الأفق. والإنسان الحر هو الذي يتجاوز وهم امتلاك المعرفة واليقين عبر إخضاع كل شيء إلى التجربة، بما في ذلك قياس الأخلاق إن كانت نابعة من جوهرها الحر، أم هي مجرد ادّعاء بالحرية مبطن بالجبن. وما بين العقل الذي يستدل إلى المعرفة من خلال المثل والمجردات، والتجربة التي تعتمد البرهان، هناك مساحة ثالثة أخرى يجب تخصيصها للنقد الذاتي باعتباره فعلاً مستمراً فاحصاً يراقب ما يطرحه العقل، وما تصل إليه التجربة ويبني من خلالها جسر المعرفة المتغيرة. وبالتالي لن يقف الفرد أو المجتمع على مسلمات وبديهيات ثابتة، بينما الحياة في تغيّر مستمر. هكذا نهضت الأمم العظيمة في سباقها نحو الضوء والتمدن والارتقاء على سلم الحضارة.
في المجتمعات الحرة، يتقدم العقل ويكون حاضراً حتى في صميم الطرح الروحاني وممارساته. ومساحة النقد المتاحة، لا تسمح للدجالين بترهيب الناس منذ طفولاتهم وزرع ثقافة الخوف في مناهجهم الدراسية. والطفل هناك يكبر حراً في تفكيره من غير أوصياء وحراس وجلادين، وهو ليس مطالباً إلا بأن يكون حراً ومبدعاً وصادقاً مع ذاته ومع العالم من حوله.
أيضاً الحرية هي شرط الحب. وأن تحب يعني أن تصبح حراً أولاً، وأن تحرر أيضاً تلك التي انتظرتك جناحاً يكمل ارتفاعها في سماء جديدة.