لو تستقر النار في كبد مشعليها، لو يقطع مقصّ الصمت لسانها النمّام، لكانت الدنيا عتبات عرس حتى الفجر، والناسُ حجّاج محبّة، والأوطان سلالم ترتقي حتى منبع الضوء. النار تمرض ولا تموت، يردمها السائرون إلى الحرية بالتراب والدمع، لكن رمادها يظل ينبضُ بانتظار نفخة الريح الغادرة. ويظل جمرها مخبوءا في نوايا الغدر فحماً يستر ظلام القلوب الجاحدة. وفي اللحظة التي نظن شر شرارها ولى، يأتي الغريب ممتدحاً دخانها لتعود تولدُ من جديد. هكذا تدور الفكرة الكافرة في أسطوانة التكرار ولا يستوعب الدرس أحد. هكذا تُكوى خطوة الغد بلسعة الوهم الماكرة ويبدأ المشي عوداً للوراء.
لو يكبر الماء شبراً عن طفولته. لو يكملُ البحرُ سرد سيرته موجة موجة، لقال كلاماً عن امرأة حذاؤها المدّ، ورحيلها سفنٌ عذبتها المراسي وخضّب مجدافها عطب الانتظار. من ساحلٍ إلى ساحل، سيقف العشّاق غرقى لعل ظلالها تخرج من زرقة الأبد الزاهية. وليت الماء كله قطرةً في ندى عينيها. وليت هواجسي تُقفلُ، وتجرفها بقايا أمنياتٍ آتية. هي امرأة قِسُّها المطر الذي يغسل أحزان الراحلين من منفى إلى منفى، والحرية مجرّد طفلة لا تكبر إلا في أحلامهم.
لا كسوة إلا التراب، ولا فرار إلا له. أما انهمامك بارتداء القلنسوات، وانخطاف روحك بالريش والطاووس، فذلك لأنك لا تطير، ولا عرفت طباعك لذّة أن تسمو خارج هذا الجسد الثقيل. جُل بعينيك في الدائرة الكاملة، وسترى أنك وحدك من يغلق فمها إذا بصقت على قيد وهمك، وقلت للظلال التي تُعميك: أنا ضوء ذاتي. وقلت للنجمة: بذرتكِ نصّاً في سماء أغنية حافية. وإن شئت أن تركض، اتبع مسار الشمس واقطف خصلة من شعرها كي لا تفتك بك الوحشة بعد الغروب. وكي تكون القصيدة، الأثر الوحيد الذي تتركه شعلة وراءك، وتذهب مطمئناً لتختفي في الخلود.
لأنهم كسروا جناحك، لن تعرف الفرق بين الهوّة والهواء. وما ارتفاعك في النشوة إلا سقوطك في عيونهم. وما رقصك قافزاً رادحاً في حفلة الريح، إلا لأنهم سيهجروك لتبقى وحيداً في عيون العاصفة. لا كلأ إذا استحقرك الملأ. ولا اتجاه، إلا إذا طبطب الموتُ على غرورك، وشكّ إبرته في عناد سيرتك الذاوية. ومن يدركه الهوى، هيهات يرضى الوقوف على أرضٍ بعدها، وهيهات تحدّه سماء.