لا أعرف من قال هذا المثل «القناعة كنز لا يفنى»، وقد أعياني البحث والتنقيب في كتب التراث، فلم أتصابى على قائله، ولا مناسبة قوله، فقد نسب فيما نسب كحديث من الأحاديث النبوية باللفظ، وهو غير ذلك، وحتى حديث «القناعة مال لا ينفد» ضعيف، وذو سند واهٍ، والبعض ينسبه كقول للإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، ومهما يكن فإن ذلك القول الفصل يلخص الحياة في سطور، ويعطي للإنسان في كل زمان ومكان حكمة فلسفية من ذهب، إنْ جد الإنسان في بلوغها، أوجد السعادة لنفسه، ومكّنها من نيل وطرها من السكينة والطمأنينة التي يشقى الكثير من أجلها، ويكد ويتعب الكثير ليصل إليها، فلا يصل، وذلك الشقاء بعينه.
ولعل «جاك ما» الصيني، وقبله «بيل غيتس» مثالان للقناعة التي لا ينفد كنزها، وقدوة للإنسان حين يتجلى متخطياً إغراءات الحياة من أجل الحياة الحقة، وخير البشرية، والسمو بآدمية الإنسان، «جاك ما» ذلك المدرس الصيني للغة الإنجليزية البسيط، والعصامي، فقد تعلمها بنفسه، واشتغل بها مرشداً سياحياً، وقد تنقل في طلب وظائف عدة، فلم يقبل في بلد لا يعتمد -إذ لم يعاد اللغة الأجنبية- حتى «مطعم كنتاكي» رفض تشغيله، كان راتبه من التدريس 15 دولاراً في الشهر، ورفضت قبوله جامعة «هارفارد» عشر مرات، وقالوا له في الشرطة: «لست مقبولاً كشرطي»، فاهتدى بعد تمسكه بالأمل طوال سنين طويلة إلى التجارة الإلكترونية المتسارعة في بلد يعد سوقاً عملاقة في الداخل والخارج، مهتدياً لطريق للحرير جديد، سرعان ما شمل بقاع العالم، وقفز ذاك الدكان الصغير الذي أسس عام 1999 ليصبح أكبر شركة عملاقة في العالم في غضون سنوات قليلة، حيث تعادل وتتعدى ميزانيتها، ميزانيات دول في العالم كثيرة، مثل إيران، في البداية كانت «علي بابا» التي فتحت له مغارته بتلك العبارة السحرية «افتح يا سمسم»، ثم تلتها «تاو باو» اليوم..
يقدر رأسمالها بـ«400» مليار دولار، وبثروة لـ«جاك ما» تصل إلى 21 مليار دولار كأحد ثلاثة من أغنى أغنياء الصين.
«جاك ما» بلغ الرابعة والخمسين اليوم، لكنه قرر أن يتفرغ للعطاء، وبذل الخير، والبحث عن سبله، مقدماً لفرح الإنسان، والتخفيف عنه، وعن آلامه، وتحقيق طموحه، والمساهمة في تطوير المجتمع، ورفعة الوطن، مقتنعاً ومكتفياً بما نال، ليبدأ مشوار العطاء في تطوير التعليم الذي لم ينس تلك المهنة الشريفة، وحماية البيئة، والرقي بالخدمات الصحية، فهو يبحث عن الإنسان ليمكنه من السعادة، وإدخال البسمة له في الحياة!
لمثل «جاك ما» هذا الرجل النبيل اليوم تحية..
وعيد ميلاد سعيد يليق به كرجل شريف، عرف طريق الحب فاهتدى، وسلك درب القناعة فاكتفى!