عصفور زلامسي هو غير العصفور الذي ينام بين أغصان السدرة، متوجساً من مباغتة الأيدي غير الناعمة. عصفور زلامسي يطل عليك من طرف أشبه بنجمة صغيرة تسللت من خلف غشاء الغيمة.
هذا العصفور راهب متعدد المواهب، وأولها الألفة مع الناس، يتجول بين الأقدام في تؤدة، وخيلاء، وكبرياء مطمئن النفس قرير الخاطر، ينقر ما تبعثه إليه نخوة الجالسين على مقاعد الاسترخاء، ويرفع راْسه وكأنه يود أن يطرح السؤال الأزلي لدى سكان أي بلد على الضيوف والزائرين، ثم يصدح محيياً، وهو يهز ذيلاً أشبه بمكنسة صغيرة وينتقل بخفة من مكان إلى آخر، حبوراً، مسروراً، ونشيد الأبدية، يبلغ مبلغ العذوبة على لسانه، الخارج من فتحة ضيقة أقرب إلى حدي مقص الشوارب، وأنت ترصد وثبات الرشاقة، وكأنه يرقص على حبل الأرجوحة، ويتناغم مع قرينه بزقزقة، موسيقية توصد أبواب السكون في المكان الهاجع تحت خاصرة الجبل، عند شفة البحيرة النائمة تحت شرشف الغيمة الرهيف، ويجول العصفور على أرض زلامسي، بحرية الكائنات التي لم يقض قضيضها، عابث، ولا وارث كبوتات أزمنة الخوف الأبدية.
هنا يقف الأطفال الذين جاؤوا من أقاصي قارات الرهاب، ويمدونه بتف الرغيف، وهو يرقص طرباً على الهدايا الزهيدة، شاكراً، منعماً بفضيلة الحشود، المتزاحمة، من أجل تعاطي الدروس من كائن لا يزيد حجمه عن راحة اليد لكنه بعبقرية المكان، والزمان، والإنسان، استطاع هذا العصفور أن يأخذ حيزه في هذا الوجود، من دون غثيان، المطاردات، وانتزاع الروح فزعاً، من مداهمة قد تسكنه المثوى الأخير قبل أن يلتقط حبته الأخيرة، وقبل أن يأخذ شهيق اللحظة الأخيرة.
قبل أن يحل الظلام، يبدأ العصفور في مطمطة الجناحين، وكأنه في حالة تسخين بعدها يتلفت يمنة ويسرة، ثم يخبط ساقه الدقيقة، كما هو عود الثقاب، على الأرض ويفرد الجناحين، وينطلق إلى رحاب الله، ويختفي فجأة بين غابة من الأشجار الكثيفة، وفي صباح اليوم التالي، تجد الطائر الصغير يحط رحاله عند النافذة، ويطلق النداء الموسيقي، فقد يكون هو أو عصفوراً آخر، المهم في الأمر فأنت على موعد مع عصافير لا تفزع، ولا تجزع، ولا تفر لمجرد سماع صرير باب الجيران، هذا العصفور كائن مختلف لأنه اعتاد حياة مختلفة، خالية من الأحجار الصغيرة، وأقواس النشاب، هذه العصافير، تعيش في فضاء صاف، من الهرولة.