في ظل الحقائب المسافرة، والتي تزداد في كل مدينة حقيبة جديدة، والأسباب حمى الشراء، وكأن العجوز في بقعة منقطعة، وكأن أولادها لاجئون على الحدود الألبانية، طبعاً من سيعتل كل هذه الحقائب؟ ومن سيحمل على ظهره كل هذه الأكداس؟ الأم عذرها أنها تشقى كل يوم ملبية طلبات الأولاد، والشغّالة ليتها تستطيع حمل نفسها، لم يبق إلا ذاك الأب الذي يدفع، وهو الذي سيحمل، وهو الذي سينزل، وهو الذي سيبقى حارساً لتلك الحقائب المتكاثرة والمتناسخة، وهو من سيتكفل بدفع وزنها الزائد، كل تلك الحقائب في جهة، وحقيبة «الحور» التي تسكّن فيها دماها المفضلة، والتي «تشالي» بها من مكان إلى مكان، وتركبها معها في قطار أو سيارة أو طيارة، فتزيدك أنت أيها الأب زحمة، وتعرقاً، وتصبح عتّالاً لتلك الحقيبة الوردية، لا تفارق يدك بأمر من تلك الصبية التي تحبو نحو السادسة، ولا تريد أن تتخلى عن الدمى، وتعرفها بأسمائها.
أروى البنت الكبرى كثرت أسئلتها الواقعية، مع بداية مرحلة النضج، وكثرت معرفتها بأضداد الحياة، لِمَ هذا الرجل فقير؟ وما دام هو فقير كيف يحمل مظلة؟ أو لِمَ هذه المرأة الفقيرة تعيش في الشارع، ولديها أولاد كثر؟ لماذا هذا ليس عنده مثل أبي؟ تماماً كما كانت تعتقد وهي صغيرة أن كل بلد تزوره عندهم الشيخ زايد يرعاهم ويحكمهم، أسئلة أروى «الوجودية» تربك الأم، خاصة إذا ما قاربت السماء، تظل تستغفر ، وتخاف أن تجيبها عليها، تماماً مثلما تخاف من أجوبتي، باعتبارها أنها «راعية دين»، وأنا «لكم عليّ شوي.. راعي داعسج، وراعي كتب»!
منصور بعكس أخواته، قليل الأسئلة، ويميل للصمت، وله لحظات تأمل بعد الاستيقاظ، وأثناء التجوال بالسيارة أو ركوب باخرة، وهي ميزة أحبها فيه، لأنه يشبهني في هذا، وحدها الأم تظل قلقة من هذه العادة، ودائماً ما تردد: شو فيه ولدي هالشكل؟ وحين أجيبها أنه ورثها مني، تصرخ لا إن شاء الله ما أتمنى له يطلع كاتباً أو صحفياً أو سينمائياً، فأضحك منها وعليها، وأقلق من أمنيتها، فدعواتها أن يصبح شيخ دين، وإمام جامع كجدها لأمها الذي هو قدوتها في الحياة، فقد حاز نعيم الدنيا، وثواب الآخرة! فأضحك ثانية: كيف شيخ دين؟ وهو من صغره يصيح يريد «آيفون، وآيباد»، ويختل إذا ما شاف مضيفات الطائرة، فتستغفر، وتهرب.
في السفر تتفتق مواهب الأطفال، وتبنى شخصياتهم، غير أن بعض الأهالي يظلون مثل المدرسين التقليديين، لا تفعل هذا، ولا تخرج من هنا، ولا تلعب بذاك، ووصايا كثيرة، وربما كبيرة تفوق وعيهم وأعمارهم، وتربك سير حياتهم الطبيعية، والبعض لا يحترم رغبات ومتطلبات شخصية كل واحد منهم، يريدونهم أن يكون سواسية وأسوياء، قناعتي أن الإنسان يبدأ يبني شخصيته منذ الصغر بما يمنحه الله من هدايا ومواهب، وربما إشارات إلهية للتوجه، يغذيها بالمعرفة والمعارف والاختلاط والتجارب، وحظوظ في أكثرها، وربما مساوئ في أقلها، أن يكون له في حياته أبوان على قيد الحياة واعيان ليرشداه أو غير مسؤولين ليطبعا حياته بالشر، وسوء المنقلب!