كتب لي أن أزور اليمن مرات، لكن الدهشة الأولى تطغى، خاصة وأن الصدر كان مشحوناً بأشياء اليمن القديم والسعيد، وصنعاء تنتظر القدوم عليها حتماً وبداً، وإن طال السفر بالمُعَنّى، كانت هناك صور في الرأس عن المكان وناسه، لكنها لم تصل لصدق ما ستراه العين، فأول ما حطت الرجل وعرفت موقعها، كان المشهد لمكان موغل في القدم، تغطيه غبرة التاريخ، ووجوه منبعثة من الخرائب وما تبقي الحروب، لم يكن المكان يوحي للزائر غير المباغتة بانفصال عن العالم الذي أتى منه: بوابات تئن من ثقل التاريخ، روائح البهار والملح، وخطرفات لأقدام خفيفة، وبعضها شبه حافية، تأتزر بجنبية ومئزر، تعلو هاماتها عمائم هي تيجان العرب، يمكن أن تصطاد من بين المارين على عجل أو مهل، مؤرخاً يكتب عن المنتصر، ولا يغفل رواية المنهزم، قاضياً نزيهاً يتمنى أن لا يكون مع صاحبيه في النار، ثائراً يتبع حركات الفتن والدعوات السرية للخروج عن أمر الخلافة، ويقض مضجع والي أمير المؤمنين، قد يكون من بين المشّائين خطاط يؤانس بين الريشة والدواة والحبر والقلم، تاجر توارث المهنة منذ أيام رحلة الشتاء والصيف، واليوم اكتسب مهارة الدعوة وتوصيل الرسالة في أسفاره البعيدة نحو الشرق الأقصى، بحثاً عن الرزق والأجر، تدخل سوق الملح، فلا يوحي إلا بأسواق العرب في جاهليتهم، حتى إن له رائحة لا يمكن أن تدلك على شيء غير التاريخ وذلك الغبار الذي يتكون مع الوقت وفلول الناس، كنت مندهشاً لحد أن اللغة أيضاً جمدت في مكانها منذ حِمّيَر وبني تُبع اليماني، هل هي العزلة الطويلة التي مارسها الأئمة على اليمن؟ أم هل الناس متمسكون بتلك الأشياء حتى صارت مقدسة مع الوقت، في اليمن لا شيء إلا القديم، وما أبقى التاريخ، حتى البيوت من خارجها وفي داخلها، حتى الجفان من الفخار، وتلك الأطعمة شبه البدائية، لا مظهر للحداثة في تلك العاصمة التي تشعر فيها بضيق في التنفس، عدا عمارة زجاجية للطيران اليمني، تغثي النفس، وتشعرك أنها بثرة وقحة في وجه المدينة القديمة أو ثؤلولاً ناتئاً لا معنى له، لكن بعد أيام تآلفت مع المدينة وروحها، وشعرت أنها مختلفة، وجديرة بأن تتعمق في أشيائها، غير أن تلك الأشياء وخاصة التي لها ذكر في التاريخ حين تقترب منها، وتجدها مهملة، ومستحقرة، وممعن في إذلالها، تتوقف مع كلمة أسى، وآه من عتب، توقفت عند شجرة الغريب، وتعجبت كم هي مهملة، وتوقفت عند «غرقة القليس» وكيف تحولت «كعبة إبراها» لمكب نفايات، وساحة يتعصر فيها المعذورون أو يهرقوا ماءهم، وهي التي كانت أعمدتها من فضة وعاج وحجر كريم، وخشب أبنوس مشغول!